الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع التَّوْصِيف المتفق
والمراد به: أَنْ يكون للواقعة توصيفان أَوْ أكثر يختلف بعضها عن بعض، ولكنها متفقة في الحكم القضائي، ولو انفرد أحدهما لكفى في الحكم.
فالمدعي وهو يعرض دعواه يورد من الوقائع بها يمكن توصيفه بتوصيفين أَوْ أكثر كلٌّ منها يختلف عن الآخر، ولكنها تتفق في الحكم ولو انفرد أحدها أغنى عن الآخر.
مثاله: ما حكم به القاضي أبو المطرف ابن بشر المالكي
(ت: 422 هـ) من الحط من أجرة مزارع موقوفة في قرطبة بالأندلس أصابتها حشرات ضارّة بالزرع؛ لغلبة رطوبة الماء عليها، وبسبب امتناع السقاية عنها للمخافة اللاحقة بسبب الحروب شرقي المدينة، وإتلاف بعض الحيوانات البرّيّة للمزارع وغراسها، وقد جعل القاضي ذلك من قِبَل نظر القاضي لِحظَّ الأوقاف ومصلحتها باستئلاف مستأجريها، كما جعله من قِبَل الحط من الأجرة
لأجل الجائفة (1)، فوصف الواقعة بتوصيفين مختلفين، لكنهما متفقان في النتيجة.
ومن أمثلة ذلك- أيضًا-: أَنْ يدّعي رجل على ولي امرأة بأنَّه قد غرر به، وزوَّجه موليته المعيبة من دون إخباره بعيبها- وهو برص في جسمها-، وأَنَّه لما دخل بها علم بهذا العيب، لكنه مكث معها بعد ذلك ثلاثة أشهر كان خلالها يواقعها، ثم وجد نفسه تعافها لهذا العيب وطلقها، وقد خرجت من عدتها، ويطلب إلزام المدعى عليه - ولي المرأة- بإعادة المهر الذي سلمه للمرأة، وقدره خمسون ألف ريال؛ لأَنَّه غرَّر به، فهنا المدعي لا يستحق استعادة المهر الذي يطالب به، ولا شيئًا منه، وتوصَّف الواقعة بتوصيفين:
أحدهما: أن ذلك من قِبَل مطالبة المدعي باستعادة المهر مع أنَّه علم بالعيب وسكت عنه، بل مكث مع المرأة مع علمه بعيبها مدة ثلاثة أشهر كان يواقعها، وهذا دليل على رضاه بالعيب، ويسقط حقه في الفسخ، فقد قرر أهل العلم: أن من علم بعيب نكاح، وصدر منه ما يَدُلُّ على الرضا به من وطء بعده سقط خياره (2).
الثاني: أَنَّ المدعي قد طلق المرأة بعد علمه بالعيب، ولا يستحق استعادة المهر للتغرير بعد الطلاق؛ لأن سببه الفسخ ولم يوجد، فقد قرر أهل العلم: أن من طلق ثم طالب الولي بمهر موليته
(1) الأحكام الكبرى لابن سهل 2/ 745.
(2)
شرح المنتهى 3/ 52.
لأَنَّه غيره بعيبها فليس له ذلك؛ لأن سبب استعادة المهر الفسخ للعيب، ولم يوجد (1).
ومن أمثلة ذلك- أيضًا-: لو ادعى شخص على آخر بأن بينهما مزرعة بها غراس، وهي مملوكة لهما على وجه الشيوع، وقد أجَّر المدعي نَصِيبه على شخص ثالث، وامتنع المدعى عليه من التأجير، ويطلب إلزامه بتأجير نَصِيبه حفاظًا على الغراس حتى لا يهلك، فإذا أجاب المدعي بالمصادقة على الدعوى، وامتنع من التأجير فهنا يتوجه إلزام المدعى عليه بتأجير نَصِيبه بأجرة المثل، وتوصف الواقعة بتوصيفين، هما:
التوْصِيف الأول: أَنَّها من قبيل صِحَّة تأجير المشاع، وإلزامِ الشريك بالتأجير بأجرة المثل على الراجح؛ فقد ذكر أهل العلم: أَنَّ الشريكين في عقار مشاع ونحوه إذا أجر أحدهما، وامتنع الآخر عن التاجير أُجْبِر عليه، وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد (2).
والتوصيف الثاني: أنها من قبيل إجبار الشريك بإعمار الملك المشترك بينهما، وتأجير المزرعة وجه من وجوه الإعمار، وقد ذكر أهل العلم: أن مَنْ بينهما ملك مشترك، واحتاج للإعمار، وطلب أحدهما من صاحبه أَنْ يعمره معه أُجْبِر على ذلك إذا امتنع (3).
(1) منار السبيل 2/ 181 - 182.
(2)
مختصر الفتاوى المصرية 323، الروض المربع 5/ 309.
(3)
شرح المنتهى 2/ 272، الروض المربع 5/ 158.
فتَوْصِيف الواقعة بتوصيفين متفقين في الحكم القضائي سائغ؛ لأَنَّ اجتماع الأدلة على المدلول الواحد مما يزيدها قوة.
يقول ابن تَيْمِيَّةَ (ت: 728 هـ): "
…
وهكذا يقال في اجتماع الأدلة على المدلول الواحد: أنها توجب علمًا مؤكدًا أَوْ علومًا متماثلة، ومن هنا يحصل بها من الإيضاح والقوة ما لا يحصل بالواحد" (1).
وثَمَّ سؤال يرد على ذلك، وهو إذا كان أحد التوصيفين ثبت حالًا، والآخر يحتاج إلى عقد جلسات للنظو فيه وإثباته، فهل يسوغ متابعته؟
والجواب؛ أَنَّه لا يسوغ تتبع ما لا يَتَوَقَّفُ الحكم عليه، ويقوم غيره مما ثبت مقامه؛ لما في ذلك من تأخير الحكم في القضية، وإتعاب الخصوم فيما لا يَتوَقَّفُ الحكم عليه، والقاضي مطلوب منه حذف التطويل، ورفع التشتيت؛ يقول ابن العربي (ت: 543 هـ): "وقد يكون الرجل يأتي القضاء من وجهه باختصار من لفظه، وإيجاز في طريقه بحذف التطويل، ورفع التشتيت، وإصابة المقصود"(2).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم (ت: 1389 هـ): "
…
فعلى القاضي أَنْ يسلك أقرب الطرق التي تُنهِي القضية، ولا يطيل على
(1) مجموع الفتاوى 10/ 175
(2)
أحكام القرآن 4/ 34.
الخصوم الأخذ والرد، أَوْ يتركهم يتخبطون في وجهة غير مجدية، وهو يجد لهم طريقًا شرعية أقرب منها" (1).
ويقول ابن تَيْمِيَّةَ (ت: 728 هـ): "ومعلوم أَنه من قامت عليه حجة ببينة في مسألة علم، أَوْ حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها لو قال: أنا لا أقبل حتى تقوم عليه الحجة ثانية وثالثة كان ظالمًا متعديًا، ولم تجب إجابته إلى ذلك، ولا يُمَكَن الحكامُ الخصومَ من ذلك، بل إذا قامت البينة بحق المدعي حُكِمَ له بذلك، ولو قال: أريد بينة ثانية وثالثة ورابعة لم يُجَب إلى ذلك"(2)، لكن إذا كان فيه زيادة فائدة ساغ للقاضي الأخذ به.
* * *
(1) فتاوى ورسائل 12/ 381.
(2)
الجواب الصحيح 4/ 275.