الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَابِع
(11)
بَابُ النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الكِتَابِ
103 - ومنها: البخل، والأمر به، ومنع من تجب عليه الزكاة الزكاة، ومنع الزَّكاة ممن تجب عليه، وأخذ من لا يستحقها منها
.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37]؛ هي في أهل الكتاب على ما سنبينه.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} [البقرة: 83].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34].
قيل: إنهم كانوا يأمرون بالزَّكاة والصَّدقات، فَتدفع إليهم الناس صدقاتهم ليقسموها في الفقراء، فكانوا يستأثرون بها ويكنزونها، ولذلك قال عقبَه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
{فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35].
وهذه الآية سبب سكنى أبي ذر رضي الله تعالى عنه بالربذة بإشارة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهي إحدى ما انتقده الخارجون على عثمان رضي الله تعالى عنه.
والذي في "صحيح البخاري" عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك هذا المنزل؟
قال: كنت بالشّام فاختلفت أنا ومعاوية في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: نزلت في أهل الكتاب.
فقلت: نزلت فينا وفيهم.
وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان رضي الله تعالى عنه يشكوني، فكتب إليَّ عثمان رضي الله تعالى عنه أن اقدم المدينة، فقدمتها، فكثر عليَّ النَّاس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان رضي الله تعالى عنه، فقال لي: إن شئت تنحَّيت وكنت قريبًا، فذلك أنزلني هذا المنزل، ولو أمَّروا عليَّ حبشيًا لسمعت وأطعت (1).
وليس في بني إسرائيل ولا غيرهم من تظاهر بمنع الزكاة بأبلغ مما تظاهر به قارون.
(1) رواه البخاري (1341).
قال الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76].
قال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كان قارون ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام. رواه الفريابي (1).
وقيل: كان عمه.
وقيل: ابن خالته (2).
وكان عامل فرعون علي بني إسرائيل، فتعدى عليهم وظلمهم.
وهو معنى قوله: {كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] كما نقله الثَّعلبي، وغيره عن سعيد بن جبير، ويحيى بن سلام (3).
وروى ابن أبي حاتم، وغيره عن قتادة قال: كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه، وكان قطع البحر مع بني إسرائيل، وكان يسمى المنوَّر من حسن صوته بالقرآن، ولكن عدوَّ الله نافق كما نافق السَّامُري، فأهلكه الله ببغيه.
قال: وإنما بغى لكثرة ماله وولده (4).
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 437)، ورواه الطبري في "التاريخ"(1/ 262).
(2)
انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (6/ 239).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(7/ 260).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3005).
قيل: وكان من بغيه أنَّ النبوة كانت في موسى، والحبورة كانت في هارون، فحسدهما.
والمعنى أنه غار على النُّبوة أن يتظاهر بها موسى.
ولا يمنع ذلك من شركة هارون معه في النبوة، وعلى الحبورة؛ أي: إفادة العلم أن يتظاهر بها هارون مع أن قارون كان قد جمع التوراة والعلم، إلا أن الناس لم يقبلوا ما عليه بالسؤال عن العلم والاستفادة منه كما أقبلوا على موسى وهارون، فحسدهما حتى جرَّه الحسد إلى البغي.
وفي الحديث: "وَإِذَا حَسَدْتَ فَلا تَبغِ"(1)؛ أي: بأن تتمنى زوال النعمة عن محسودك، أو تسعى في ضرره كما فعل قارون.
وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص: 76] قال: كان ابن عمه، وكان يتتبع العلم حتى جمع علمًا، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده، فقال له موسى: إن الله أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى، فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم
…
الحديث على ما سيأتي (2).
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(19504) بلفظ قريب. قال ابن حجر في "فتح الباري"(10/ 213): وهذا مرسل أو معضل.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3018)، والحاكم في "المستدرك"(3536).
ونقل الثَّعلبي، وغيره عن الضَّحاك: أن بغي قارون كفره (1).
وقيل: نسبته ما آتاه الله تعالى إلى نفسه بعلمه وحيلته كما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78].
قال ابن زيد: أي: بفضلي.
وقال علي بن عيسى: على علم وحيلة عندي، ومعرفة بوجوه المكاسب والتِّجارات.
وعن ابن عبَّاس: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} بصنعة الذَّهب.
قال القرطبي: وأشار إلى علم الكيمياء.
وحكى النقَّاش أنَّ موسى عليه السلام علَّمه الثلث من صنعة الكيمياء، ويوشع الثلث، وهارون الثلث، فخدعهما قارون، وكان على إيمانه حتى علم ما عندهما، وعمل الكيمياء، فكثرت أمواله (2).
وروى ابن أبي حاتم عن الوليد بن زروان في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص: 76]، قال: كان قارون يعلم الكيمياء (3).
وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: بلغنا أن قارون لمَّا أوتي الكنوز والمال جعل باب داره من ذهب، وجعل داره كلها من صفائح الذَّهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون
(1) ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3006).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 315).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3007).
عليه ويروحون فيطعمهم الطَّعام، ويتحدثون عنده (1).
وفي حديث سلمان رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: "كانَتْ دارُ قارُونَ مِنْ فِضَّةٍ وَأَساسُها مِنْ ذَهَبٍ"(2).
والأساس -بفتح الهمزة-: أصل البناء، ومثله الأس مثلثًا، والأَسَسُ -بفتحتين- ويجوز أن يكون بكسر الهمزة، ولعله أقرب إلى الرواية: جمع أس.
وجمع الأساس أُسَس -بضم فَفَتْح- وأساسات، وجمعه المتحرك: آساس كأسباب.
والمراد بالأساس في الحديث: أصول البناء الظَّاهرة لا المطمورة في الأرض، وإنما كانت ذهبًا والأعالي فضَّة ليقرب الذَّهب من الساكن في البناء بخلاف ما لو عكس.
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} . القائل له: موسى، أو المؤمنون من قومه:{لَا تَفْرَحْ} ؛ أي: بما أوتيته من الدنيا وإن كثر؛ لأنَّ الفرح به نتيجة حبه والرضى به، وهو مانع من محبة الله تعالى التي هي شرط الإيمان به {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]؛ تعليل لنهيهم إياه عن الفرح بالدُّنيا.
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3019)، وكذا الطبري في "التاريخ"(1/ 265).
(2)
عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 437) إلى ابن مردويه.
قال مجاهد في قوله: {لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} : المتبدِّخين الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله تعالى على ما أعطاهم. رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (1).
وقال في رواية لابن أبي حاتم: الفرح ها هنا هو البغي (2).
وقال ابن عبَّاس: المرحين. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (3).
وقيل: الباخلين (4).
وكل ذلك إما تفسير للفرح بلازمه، أو بما يترتب عليه.
والتبدخ - بمعجمات وبدال مهملة - كما حكاه في "القاموس": التَّعظم، والتَّكبر، والعلو.
ويقال: بدخ مثلث الدال المهملة، وبذخ - بكسر المعْجمة -: تكبر بذخاً - بالتحريك - (5).
والأشر والمرح بمعنى، أو هما بمعنى النشاط والتبختر.
والبطر: النشاط، والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدهش والحيرة،
(1) رواه الطبري في "التفسير"(20/ 111)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3009).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3009).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3010).
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 314).
(5)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص: 318)(مادة: بدخ).
والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة؛ فعل الكل كفرح.
وبطر الحق أن يتكبر عنده فلا يلحقه؛ قاله في "القاموس"(1).
واستقرب الوالد تفسير الفرح في الآية بالبطر، وأنشد قول بعض العرب:
لَسْتُ بِفَرَّاحٍ إِذا الدَّهْرُ بَسَر
فإنه يدل على أن الفرح قد يراد به ما هو فوق السرور؛ فإن مطلق السُّرور بالشيء لا يستحق عليه الإنسان أن يذم ولا يمتدح فيه.
قال تعالى حكايته عن القائلين لقارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص: 77]؛ أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدُّنيا ما ينفعك في الدار الآخرة لتكون عبدًا صالحًا، ويكون مالك صالحًا.
وفي الحديث: "نِعْمَ الْمالُ الصَّالحُ لِلْعَبْدِ الصَّالِح"(2).
{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]؛ أي: ما تتمتع به من الحلال.
وقال مجاهد: {نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} : الذي تثاب عليه في
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 449)(مادة: بطر).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 197)، والبخاري في "الأدب المفرد"(299)، وابن حبان في "صحيحه"(3210) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
الآخرة. رواه عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم (1).
وقال ابن عباس: نصيبك من الدُّنيا: أن تعمل فيها لآخرتك.
وفي رواية: أن تعمل لله. أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم (2).
وعندي أنه لا يفسر بأجمع مما اشتمل عليه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُوْلُ العَبْدُ: مَالِي، مَالِي، وَإِنَّما لَهُ مِنْ مَالِهِ ثلاثة: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ تَصَدَّقَ فَأَبْقَى، وَما سِوَى ذَلِكَ فَهُو ذاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ". رواه مسلم (3).
وحديث عبد الله بن الشخير رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، وفي لفظ: وقد أنزلت عليه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، وهو يقول:" [يقول] ابن آدَمَ مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا ما أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَبْقَيْتَ"(4).
وفي لفظ الطبراني: "أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ"(5).
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 93)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3010).
(2)
ورواه ابن أبي أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3010)، وكذا الطبري في "التفسير"(20/ 112).
(3)
رواه مسلم (2959).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواة الطبراني في "مسند الشاميين"(2709).
وقيل في قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} : إنه الكفن؛ فإنه لا بد لكل واحد منه (1).
وقد قيل: [من البسيط]
هِيَ الْقَناعَةُ لا تَبْغِي بِها بَدلًا
…
فِيها النَّعِيْمُ وَفِيها راحَةُ الْبَدَنِ
انْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
…
هَلْ راحَ مِنْها بِغَيْرِ الْقُطْنِ والْكَفَنِ
قال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ؛ أي: أطعه كما أنعم عليك {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 77 - 87].
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 78].
وهذا أنزله الله تعالى عقب ذكر محاورة قارون لقومه على وجه المراد لقوله، أو التعجيب، أو التوبيخ له وإن كان هالكًا على حد قوله صلى الله عليه وسلم لصناديد قريش بعد أن قُتلوا وهم في قَليب بدر:"إِنِّي وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ "(2)، أو لمن هو على مثل حال قارون من الاغترار بالقوة والأموال.
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 314).
(2)
تقدم تخريجه.
قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].
قال ابن جريج رحمه الله تعالى: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان، ومعه ثلثمئة جارية على البغال الشهب، عليهن الثياب الحمر (1).
وقال السدي: خرج في جواري بيض على سروج من ذهب، عليهن ثياب حمر، وحلي ذهب (2).
وقال عطاء: خرج في ثوبين أحمرين (3).
وقال الحسن: في ثياب صفر وحمر (4). رواها ابن أبي حاتم.
وقال الكلبي: خرج في ثوب أخضر كان الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام من الجنة فسرقه قارون. ذكره الثعلبي وغيره (5).
وفيه أقوال أُخر تقدّمت في محلها.
وروى الديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعُ خِصالٍ مِنْ خِصَالِ [آل] قارُونَ: لِباسُ الخِفافِ
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3014)، وكذا الطبري في "التفسير"(20/ 115).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3014).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3013).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3013)، وكذا الطبري في "التفسير"(20/ 115).
(5)
انظر: "تفسير القرطبي"(13/ 317).
الْمَقْلُوبَةِ، وَلِباسُ الأُرْجُوانِ، وَجَرُّ نِعَالِ السُّيُوفِ، وكانَ الرَّجُلُ لا يَنْظُرُ إِلى وَجْهِ خادِمِهِ تَكَبُّرًا" (1).
والأرجوان قال في "القاموس": بالضم الأحمر.
وثياب حمر: جمع أحمر، والحمرة وأحمر: أرجواني قاني (2).
وأورد ابن ظَفْر هذا الحديث في "تفسيره"، فقال: وكان أحدهم لا ينظر في وجه جارية إلا بكرًا.
وروى ابن أبي حاتم عن عبدة بن أبي لبابة رضي الله تعالى عنه: أول من صبغ بالسَّواد قارون؛ يعني: الشيب (3).
ويعارضه ما سبق أن أول من صبغ به فرعون.
ويجاب بأنهما تواردا على الأولية، أو فرعون أول من صبغ مطلقًا وقارون أول من صبغ من بني إسرائيل.
قال الله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ؛ أي: عند نظرهم إليه في خروجه في زينته {يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79].
وهم جماعة من أهل التوحيد كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة (4).
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(1511).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1660)(مادة: رجو).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3015).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3015).
وقيل: من الكفار.
قال والدي في "تفسيره": يكون على الأول قولهم غبطة؛ وهي لا تضر المؤمن، وعلى الثاني حسداً.
قلت: ولا مانع أن يكون حسداً على الأول لأنه قد يقع من الموحدين.
بل قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} [القصص: 82]، تصريح بأنهم كانوا موحدين، وبأن قولهم كان حسدًا لأنه وصفهم بتمني مكانه، إلا أن نقول: هو على تقدير: مثل مكانه.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ؛ أي: النافع {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].
الضمير في: {يُلَقَّاهَا} يعود إلى الثواب بمعنى المثوبة، أو السيرة التي هي الإيمان والعمل الصَّالح.
أو هو من قول الله تعالى مقطوعاً عن قول أهل العلم، وعليه: فالضمير عائد إلى الكلمة التي قالوها.
و{يُلَقَّاهَا} بمعنى: يلقنها، ويلهمها.
قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81].
قال ابن عباس في حديثه الذي صححه الحاكم، وأشرنا إليه سابقًا: فقال له -أي: لقارون- موسى عليه السلام: إن الله أمرني أن
آخذ الزَّكاة فأبى، وقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم، جاءكم بالصَّلاهَ، وجاءكم بأشياء فاحتملتموها، فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بَغِيِّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه راودها على نفسها، فأرسلوا إليها، فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فَجَرَ بكِ، قالت: نعم، فجاء قارون إلى موسى، قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال: نعم، فجمعهم، فقالوا له: بم أمر ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تصلوا الرَّحم، وكذا وكذا، وأمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم، قالوا: ولو كنت أنت؟ قال: نعم، قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله إلا ما صدقت، فقالت: أما إذ نشدتني بالله، فإنهم دعوني وجعلوا لي جُعلاً على أن أقذفك بنفسي، وأنا أشهد أنك بريء، وأنك رسول الله، فخرَّ موسى عليه السلام ساجداً يبكي، فأوحى الله تعالى إليه: ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطيعك، فرفع رأسه، فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم، فأخذتهم إلى رُكَبهم، فجعلوا يقولون: يا موسى! يا موسى! فقال: خذيهم، فأخذتْهُم فغيبتهم، فأوحى الله إليه: يا موسى! سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم، وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]؛ خسف به إلى الأرض السفلى (1).
وإنما فعل موسى عليه السلام ذلك ولم ينخدع لاستغاثة قارون وقومه به غضباً لله تعالى لا لنفسه كما روي في الأثر، ولذلك قال الله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} ، فنسب فعل موسى إلى نفسه.
وروى عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني أنه قيل لموسى عليه السلام: لا أُعْبِدُ الأرض بعدك أحدًا أبداً (2).
وروى ابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: يخسف بقارون وقومه في كل يوم قدر قامة، فلا يبلغ الأرض السفلى إلى يوم القيامة (3).
وروى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابنُ المنذر عن ابن جريج قالا: ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة، وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة (4).
وظاهر ذلك يخالف قول ابن عبَّاس: خسف به إلى الأرض السفلى.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
ورواه الطبري في "التفسير"(20/ 119)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 311).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3020).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3020) عن قتادة، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 442) لابن المنذر عن ابن جريج.