الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد روى البزار عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اتَّخَذَ مِنَ الْخَدَمِ - أَيِ: الْخادِماتِ -أَكثَرَ ما يَنْكِحُ ثُمَّ بَغَيْنَ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ آثامِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثامِهِنَّ شَيْء"(1).
-
الحادي والعشرون: موافقة الكفار والفجار في أعمالهم وأخلاقهم
.
كما وافق قارون فرعون في الخضب بالسَّواد، وقد سبق أنه كان من عماله وأعوانه.
وقد علمت ما في التشبه بالفجار وأعداء الله تعالى من البعد عن الله تعالى.
-
الثاني والعشرون، والثالث والعشرون: البخل والشُّح، والأمر بهما
.
وقد فسر الشح في "القاموس" بالبخل والحرص (2)، ثم فسر الحرص بالجشع (3)، وفسر الجشع بأشد الحرص وأسوئه، وأن تأخذ نصيبك وتطمع في نصيب غيرك (4).
(1) رواه البزار في "المسند"(2536). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(4/ 298): رواه البزار عن عطاء بن يسار عن سلمان ولم يدركه، وفيه من لم أعرفهم.
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 289)(مادة: شح).
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 792)(مادة: حرص).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 916)(مادة: جشع).
والحاصل أن هذه الألفاظ والضنة متقاربة المعنى، يرجع معناها إلى الإمساك على الشيء واحتباسه، وحقيقته حبُّ القلب للمضنون به، فيمسك عليه ويقبض لشدة تعلقه به، فينشأ عن ذلك انقباض اليد عن بذله كما ينشأ عن الكرم والسَّخاء، والسماحة والجود بسط اليد بالشيء وبذله.
وقد يحصل في هذه الأخلاق إفراط كما يحصل في تلك الأخلاق تفريط، وكلاهما مذموم، فلذلك قال الله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29].
فعبر عن الإمساك المتناهي بعمل اليد، وعن السماح المتناهي ببسط اليد، ثمّ أشار كل البسط إلى أنه إنما يذم إذا تناهى كل التَّناهي بخلاف البخل؛ فإنَّه مذموم وإن قل.
ثمَّ أشار إلى مدح الاقتصاد في آية أخرى بقوله: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].
ولقد تناهى البخل بقارون حتى خسف به إلى التناهي؛ فإنه بخل بما يجب عليه من الزكاة، وهو -أعني: البخل بالواجب هو- البخل الذي يوجب لصاحبه العذاب، على أن موسى عليه السلام رضي منه، كما في الأثر أن يبذل من كل ألف درهم درهمًا، ومن كل ألف دينار دينارًا، فبخل وشح (1)، والبخل شيمة اليهود كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ
(1) انظر: "تفسير الطبري"(20/ 116)، و"تفسير السمرقندي"(2/ 618).
فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53]؛ أي: يمنعون الحقوق وَلَو كانت قليلًا بقدر النقير، وهي النُّكتة التي في ظهر النَّواة.
وقال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]؛
أي: يتحمَّلون وزره وإثمه.
روى ابن جرير عن ابن عباس، وعن مجاهد: أنها نزلت في اليهود (1).
وقال آخرون: هي في اليهود، وغيرهم من مَنَعَةِ الزكاة.
ويؤيده ما رواه البخاري، والنَّسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ آتاهُ اللهُ مالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَومَ القِيامَةِ شُجاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيْبَتانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يأخُذُهُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي: شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ: أَنا مالُكَ، أَنا كَنزُكَ"، ثمَّ تلا هذه الآية:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (2).
وفي الحديث: أن معنى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} : أنه يجعل أطواقاً في أعناقهم.
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
(1) رواهما الطبري في "التفسير"(4/ 190).
(2)
رواه البخاري (1338)، والنسائي (2482).
فَضْلِهِ} [النساء: 36 - 37]؛ يعني: المال.
قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في اليهود.
فهذه الأخلاق الثَّلاثة المشار إليها في الآية -أعني: البخل والأمر به، وإظهار الفقر، وكتمان الغنى- من أخلاق اليهود، بل والنَّصارى، غير أنها في اليهود أظهر وأبلغ.
روى أبو داود، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ والشُّحَّ؛ فَإِنَّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم بِالشُّحِّ، أَمَرَهُمْ بِالبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيْعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالفُجُورِ فَفجَرُوا"(1).
وقد قدمنا قول عيسى عليه السلام: إن الشَّيطان يريد أن يوقعكم في بخله فلا تفعلوا.
وقوله عليه السلام بشدة: ما يدخل غني الجنة.
وروى الدينوري عن أبي عبد الله الصُّوفي قال: قال عيسى عليه السلام: طالب الدُّنيا مثل شارب البحر؛ كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا حتى تقتله (2).
وروى ابن عساكر عن سفيان الثَّوري قال: قال المسيح عليه السلام: إنما تطلب الدنيا لتبر، فتَرْكُها أَبَرُّ (3).
(1) رواه أبو داود (1698)، والحاكم في "المستدرك"(1516).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 246).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 427).