الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونقل هذا الأخير ابن عبد ربه في "العقد"(1).
*
تنبِيْهٌ:
إذا قيل: قد ذكرت أول الباب أن العرب أتم عقلاً من المعجم، ونحن نرى من متقدمي الأعاجم ومتأخريهم من نبل قدره في العلم، وبعد صيته في الفضل، وضرب به المثل في العقل، وسلم تفضيله على أقرانه من علماء العربية كأبي إسحاق الشيرازي، والسعد التفتازاني في جماعات كثيرين من المتقدمين والمتأخرين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُعَلَّقًا بِالثرَيَّا لَنَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ"(2)، ولا شك أن زيادة العلم تدل على كمال العقل في الغالب.
وروى أبو الحسن بن جهضم عن أبي علي الروذباري قال: قال لي أبو بكر الزقاق رحمه الله تعالى: يا أبا علي! لولا أنك تذاكرني في هذا الأمر -يعني: علوم المعارف والإشارات- لظننت أنه قد اندرس، أما أهله فقد اندرسوا في الحقيقة.
فقلت: يا سيدي! إنهم يقولون: إنَّ بناحية العجم قوماً محققين.
فقال: يوشك ذلك لما في الحديث: "لَوْ أَنَّ الدِّيْنَ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا
…
".
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 110).
(2)
تقدم تخريجه.
فالجواب: أن من بلغ الكمال والكمالات من الأعاجم ما بلغه من حيث إنه أعجمي، بل من حيث إنه طلب الكمالات من طريقها، فرجع بنصيبه المقسوم منها.
على أن العلوم الشرعية لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة وهما عربيان، ومن جاء بهما صلى الله عليه وسلم عربي، فمن طلب الكمالات والعلوم من المعجم فبلغها إنما حصل عليها من حيث إنه تشبه في طلبها وتحصيلها بالعرب لأن العلم من قبلهم يؤخذ، على أن أكثر المحققين من علماء المعجم من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه، والأعاجم في أصحاب الشافعي أكثر منهم في أصحاب غيره من الأئمة كما يدل عليه كتب "الطبقات والتواريخ"، والشافعي رضي الله تعالى عنه عالم قريش الذي طبق الأرض علماً، وعليه حمل الحديث (1).
وقال بعض العلماء: الحكمة في كثرة العلماء والمحققين في المعجم -أعني: أبناء فارس- أنهم لما لم يكن منهم نبي، وكانت أكثر الأنبياء في بني إسرائيل، ثم جاء من العرب نبي يوزن بكل الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم، فترجح عليهم، لم يحرم أبناء فارس من بركة النبوة من طريق الوراثة، فكثرت العلماء فيهم بهذا المعنى، ولذلك
(1) رواه الطيالسي في "المسند"(359)، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 641). قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (10/ 82): فيه النضر، قال فيه ابن أبي حاتم: متروك الحديث.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لوْ كَانَ الْعِلْمُ -وفي رواية: الإِيْمَانُ- مَنُوْطًا بِالثرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ"(1).
وأما ما وقع في كلام الفرس قبل الإِسلام من الحكم والمواعظ فهذا من باب إلقاء الله الحكم من غير أهلها ليعتبر بها أهلها إذا وصلت إليهم، كما قد يلتقط المعتبرون الحكم من الجمادات والبهائم، ولذلك كانت الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.
وقالوا: لا تنظر إلى من قال، وانظر إلى ما قال.
وحكي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: أنه مات له ابن فعزاه مجوسي تعزية فقال: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام.
قال ابن المبارك: اكتبوا عنه (2)؛ أي: وإن كان مجوسياً.
وأيضًا في إجراء الحِكَم على ألسنة بعض الفضلاء من الأعاجم في أيام كفرهم وجاهليتهم ما يستجر العقول إلى طاعة القواد والرؤساء، وما يدعو الرؤساء إلى الرفق بالمرؤوسين والرعايا، وبذلك عمارة الدنيا والبلدان، وبها تتم المظاهر الإلهية والأمور المرادة لله تعالى في البَرِيَّة، ومن هنا دونت العلماء من حكم الفرس وغيرهم مما سوى أهل الإِسلام ما دوَّنوه، وهو ما لا يحصى كثرة.
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/ 133).
روى الدينوري في "المجالسة" عن ابن عائشة، عن أبيه قال: قرأت في سيرة المعجم:
حسنُ الجوار خيرُ قِرىً، والأدبُ خير ميراث، والتوفيق خير قائد (1).
وعن ابن قتيبة قال: قال بعض حكماء الفرس: للعادة سلطان على كل شيء، وما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعمة بمثل المساواة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكِبر (2).
وقال ابن قتيبة: قرأت في سيرة العجم: عامة الأحرار أن يلقوا بما يحبون ويحرموا ما أملوا أحب إليهم من أن يلقوا بما يكرهون ويعطوا فوق ما أملوا، فانظر إلى خلة أفسدت مثل الجود فاجتنبها، وانظر إلى خلة تمقت مثل البخل فالزمها (3).
وأكثر الإِمام أبو بكر الطرطوشي في "سراج الملوك" من حكم الفرس، والهند، وغيرهم، وأكثر فيه من النقل عن بزرجمهر، ثم أورد فصلاً مستقلًّا في كلامه.
قال: وكان النحتكان (4) أبو بزرجمهر خامل القدر، وضيع
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 191).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 362)، وانظر:"عيون الأخبار" لابن قتبية (ص: 117).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 363).
(4)
في "المجالسة": "الجنكان" بدل "النحتكان".
الحال، مفهفه المنطق، فلما أتت لبزرجمهر خمس عشرة سنة حضر مجلس الملك وقد جلست الوزراء على كراسيها، والمرازبة في مجالسها، فوقف، فحيَّا الملك، ثم قال: الحمد لله المأمولة نعمه، المرهوبة نقمه، الدال عليه بالرغبة إليه، المؤيد الملك بسعوده في الفلك حتى رفع شأنه، وعظم سلطانه، وأنار به البلاد، وأغاث به العباد، وقسم له في التقدير وجوه التدبير، فرعا رعيته بفضل نعمته، وحماها الموبئات، وأوردها المعشبات، وذادها عن الآكلين، وآلفها بالرفق واللين إنعاماً من الله تعالى عليه، وتثبيتاً لما في يديه، وأسأله أن يبارك له فيما آتاه، ويخير له فيما استرعاه، ويرفع قدره في السماء، وينشر ذكره تحت الماء حتى لا يبقى له بينهما مناوئ، ولا يوجد له فيها مداني، وأستوهب له حياة لا يتنغص فيها، وقدرة لا يشاد عنها، وملكاً لا بؤس فيه، وعافية قديم له البقاء، وتكثر له النماء، وعزاً يؤمنه من انقلاب رعية، أو هجوم بلية؛ فإنه مولى الخير، ودافع الشر.
فأمر له الملك فحشي فوه بثمين الجوهر ورفيعه، ولم تدفع حداثة سنه مع نبل كلامه أن استوزره، وقلَّده خيره وشره، وكان أول داخل عليه، وآخر خارج من عنده.
قال أبو بكر الطرطوشي: وكتب قيصر إلى كسرى: أخبرني بأربعة أشياء لم أجد من يعرفها وإخالها عندك؛ أخبرني ما عدو الشدة، وصديق الظفر، ومدرك الأمل، ومفتاح الفقر؟
فكتب إليه: الحيلة عدو الشدة، والصبر صديق الظفر، والتأني مدرك الأمل، والجود مفتاح الفقر (1).
قال: قال الخضر بن علي: وقرأت في كتاب "جاويذان مجرد" -وهو أجل كتب الفرس-: أضعف الحيلة أنفع من أقوى الشدة، وأقل الثاني أجلُّ من أكثر العجلة، والدولة رسول الله القضاء المبرم، وإذا استبد الإنسان برأيه عميت عليه المراشد (2).
قال: وقال الوضاحي: وجَّه أنوشروان رسولاً له إلى ملك قد أجمع على محاربته، وأمره أن يتعرف سيرته في نفسه ورعيته، فرجع إليه، وقال: وجدت عنده الهزل أقوى من الجد، والكذب أكثر من الصدق، والجور أرفع من العدل.
فقال أنوشروان: رزقت الظفر به؛ سِرْ إليه، وليكن عملك في محاربته بما هو عنده أضعف وأقل وأجمع؛ فإنك منصور وهو مخذول.
فسار إليه فقتله، واستولى على مملكته (3).
قال بزرجمهر: المدح آفة الحمد، والكذب عدو الصدق، والجور مفسدة الملك، فإذا استعمله الملك ذهبت هيبته، وإذا استصحب الكذب استخف به، وإذا بسط الجور فسد سلطانه.
(1) انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 159).
(2)
انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 159).
(3)
انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 157).
قال: وكان نقش خاتم رستم -وهو آخر ملوك الفرس-: الهزل منغصة، والكذب منقصة، والجور مفسدة (1).
وذكر ابن عبد ربه في "العقد": أن أزدشير قال لابنه: يا بني! إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن صاحبه، فالملك أس، والعدل حارس، فما لم يكن له أس لمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.
يا بني! اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عَناه ما عَنَاك من ذوي العقول (2).
وذكر فيه عن ابن الكلبي قال: ولما أتى بالهرمزي البختكان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قيل له: يا أمير المؤمنين! هذا زعيم القوم وصاحب رستم.
قال له عمر رضي الله عنه: أعرض عليك الإِسلام نصحًا لك في عاجلتك وآجلتك.
فقال له: يا أمير المؤمنين! إنما اعتقل ولا أرغب في الإِسلام رهبة.
فدعا له عمر بالسيف، فلما هم بقتله قال له: يا أمير المؤمنين! مُر لي بشربة ماء فهي أفضل من قتلي للظمأ.
(1) انظر: "سراج الملوك" للطرطوشي (ص: 157).
(2)
انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/ 35).
فأمر له عمر رضي الله تعالى عنه بشربة من ماء، فلما أخذها قال: آمِنِّي حتى أشربها.
قال: نعم.
فرمى بها، وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نورٌ أبلج.
قال: صدقت؛ لك التوقف عنك والنظر فيك، ارفعا عنه السيف.
فلما رفع عنه قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وما جاء به حق من عنده.
قال له عمر: أسلمت خير إسلام، فما خبرك؟
قال: خفت أن تظن بي أني إنَّما أسلمت خوفًا من السيف، أو إيثاراً لدينه بالرهبة.
قال عمر: إن لأهل فارس عقلاً، واستحقوا ما كانوا فيه من الملك.
ثم أمر به أن ينزل ويكرم، فكان عمر يشاوره في توجيه الجيوش نحو أرض فارس (1).
وقد أكثر ابن عبد ربه في "عقده"، والطرطوشي في "سراجه"، وغيرهما من العلماء في كتبهم من إيراد حِكَم الأعاجم، وأمثالهم.
وذكر صاحب "قلائد الشرف" منها جملة صالحة سردها فيه، ولا معنى للإكثار منها في هذا الموضع من الكتاب، وإنما ذكرت هذه
(1) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/ 116).