الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اقتتلوا بها تسع مرات حتى تفانوا، وأن العرب سيقتتلون بها العاشرة حتى يتفانوا، ويتقاذفون بالحجارة التي تقاذفت بها بنو إسرائيل (1).
وروى ابن أبي الدنيا، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" عن الحسن رحمه الله تعالى -مرسلًا- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: "هَلْ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيْدُ أَنْ يُذْهبَ اللهُ عَنْهُ العَمَى وَيجْعَلَهُ بَصِيْراً؟ ".
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: "أَلا إِنَّهُ مَنْ رَغِبَ في الدُّنْيا وَأَطالَ أَمَلَهُ فِيْها أَعْمَى اللهُ قَلْبَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ زَهِدَ في الدُّنْيا وَقَصُرَ أَمَلُهُ أَعْطاهُ اللهُ تَعالَى عِلْمًا بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ، وَهُدًى بِغَيْرِ هِدايَةٍ، أَلا إنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ لا يَسْتَقِيْمُ لَهُمُ الْمُلْكُ إِلَّا بِالقَتْلِ والتَجَبُّرِ، وَلا الغِنَى إِلَّا بِالفَخْرِ والبُخْلِ، وَلا الْمَحَبَّةِ إِلَّا بِاتّباعِ الْهَوَى، أَلا فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمانَ مِنْكُمْ فَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى، وَصَبَرَ لِلْبَغْضاءِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَبَّةِ، وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ -لا يُرِيْدُ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللهِ- أَعْطاهُ اللهُ ثَوابَ خَمْسِيْنَ صِدّيْقاً"(2).
198 - ومنها: الولاية، والقضاء لأجل الدنيا لا لوجه الله تعالى، والتقرب إليه بالفصل بين الحق والباطل، وإيصال الحق إلى أهله
،
(1) رواه نعيم بن حماد في "الفتن"(1/ 59).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الزهد"(1/ 106)، والبيهقيّ في "شعب الإيمان"(10582).
والأخذ على يد الظالم، والحكم بالباطل، وترك القاضي الحكم بالحق إذا سئل عنه، واتباع الهوى في الحكم، والمداهنة فيه، وهذه صفات قضاة السوء.
قال الله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
روي عن الشعبي، واختاره النحاس: أنَّ الآيات الثلاث في اليهود (1).
وقال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما: في الكفار؛ كما رواه عنه مسلم (2).
وعن ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زاهدة، وابن شبرمة: أنَّ الآية الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى (3).
وهذا اختاره القاضي أبو بكر بن العربي؛ لأنه ظاهر الآيات (4).
(1) ونقل عن الشعبي: أنَّ الآية الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى. كما رواه عنه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 191)، وسعيد بن منصور في "السنن"(751)، و"أحكام القرآن" للجصاص (4/ 93).
(2)
رواه مسلم (1700).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 87 - 88).
(4)
انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 127).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، والحسن، وغيرهما أنهن عامات في كل من لم يحكم بما أنزل الله (1).
وتأولوا قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} على اعتقاد الحل، أو على التغليظ كما قيل في إطلاق الكفر على ترك الصلاة.
وروى الحاكم وصححه، عن ابن عباس في الآية: أنه ليس كفرًا ينتقل عن الملة، ولكن كفر دون كفر (2).
وصحح الحاكم أيضاً عن همام قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فذكروا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقال رجل من القوم: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة بنو إسرائيل، إن كان لهم المر ولكم الحلو، كلا والذي نفسي بيده حتى تحذوا السنة بالسنة والقذة بالقذة (3).
وروى نحوه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (4).
وروى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عن إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي لهذه الأمة بها (5).
(1) انظر: "تفسير الطبري"(6/ 240) و (6/ 257).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3219).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3219).
(4)
انظر: "الدر المنثور" لابن عباس (3/ 88).
(5)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 191)، والطبري في "التفسير"(6/ 257).
وعن الحسن نحوه (1).
وروى سعيد بن منصور عن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: ما رأيت مثل من قضى بين اثنين بعد هذه الآيات الثلاث (2).
وروى الثعلبي، وغيره عن الحسن رحمه الله تعالى قال: أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء: أن لا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس ويخشوه، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلًا؛ يعني: الرشوة، وبيع الحكم (3).
وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن بريدة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"القُضاةُ ثَلاثةٌ: واحِدٌ في الْجَنَّةِ، واثْنانِ في النَّارِ؛ فَأمَّا الّذِي في الْجَنّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجارَ في الْحُكْمِ فَهُوَ في النَّارِ، وَرَجُل قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ"(4).
وروى البزار، والطبراني في "الكبير" -ورجاله رجال الصحيح- عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنْ شِئتمْ أَنْبَأتُكُمْ عَنِ الإِمارَةِ وَما هِيَ".
(1) رواه الطبري في "التفسير"(6/ 257).
(2)
رواه سعيد بن منصور في "السنن"(752).
(3)
وذكره البخاري (6/ 2619) معلقاً، ورواه الجصاص في "أحكام القرآن"(4/ 92).
(4)
رواه أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، وابن ماجه (2315).
فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟
قال: "أَوَّلُها مَلامَةٌ، وَثانِيْها نَدامَةٌ، وَثالِثُها عَذابٌ يَوْمَ القِيامَةِ إِلَّا مَنْ عَدَلَ؛ وَكَيْفَ يَعْدِلُ مَعَ أَقْرَبِيْهِ؟ "(1).
وروى أبو يعلى، وابن حبَّان في "صحيحه" -وأصله عند الترمذي- عن عبد الله بن موهب: أنَّ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اذهب فكن قاضياً.
قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟
قال: اذهب فاقض بين الناس.
قلت: أو تعفيني يا أمير المؤمنين.
قال: عزمت عليك إلا ذهبت وقضيت.
قال: لا تعجل؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ عاذَ بِاللهِ فَقَدْ عاذَ بِمَعاذٍ".
قال: نعم، قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضيًا.
قال: وما يمنعك وقد كان أبوك يقضي؟
قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِالْجَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ، وَمَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِالْجَوْرِ كانَ في النَّارِ،
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 71). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 200): رواه البزار، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" باختصار، ورجال "الكبير" رجال الصحيح.
وَمَنْ كانَ قاضِياً فَقَضَى بِحَق -أَوْ قَالَ: فَعَدَلَ- سَأَلَ التَّفَلُّتَ كِفافاً، فَمَا أَرْجُو مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ " (1).
وروى ابن سعد في "طبقاته" عن يزيد بن موهب: أن عثمان قال
لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم: اقض بين الناس.
قال: لا أقضي بين اثنين، ولا أؤم.
فقال عثمان: أتعصيني؟
قال: لا، ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة: رجل قضى بجهل فهو في النار، ورجل حاف ومال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو كفاف لا أجر له ولا وزر عليه.
قال: فإن أباك كان يقضي؟
قال: كان يقضي، فإذا أُشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام، وإني لا أجد من أسأل؛ أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ عاذَ بِاللهِ فَقَدْ عاذَ بِمَعاذِ؟ ".
فقال عثمان: بلى.
قال: فإني أعوذ بالله أن تستعملني.
فأعفاه، وقال: لا تخبر بهذا أحداً (2).
(1) رواه ابن حبَّان في "صحيحه"(5056)، وأصله عند الترمذي (1322) وقال: غريب وليس إسناده بمتصل عندي.
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(4/ 146).
قلت: أراد عثمان بقوله: (لا تخبر بهذا أحداً) أن لا يسمعه الناس من ابن عمر، فيتقاعدوا عن القضاء، فيتعطل هذا المنصب، وتضيع مصالح المسلمين لأنهم كانوا في غاية الخوف على دينهم، وكان الإِسلام إذ ذاك في عزَّة، والناس في رغبة إلى الانقياد إلى أحكامه والاتصاف بأخلاقه.
وأما الآن فلو سمعوا مثل ذلك أضعافاً ما منعهم عن طلب القضاء فضلَّا عَن الفرار منه، بل هم الآن يبذُلون الأموال في مقابلة الولايات استكثارًا لها، وتوصلَّا إلى أموال الناس.
ومن محاسن الشيخ زين الدين بن الوردي رحمه الله تعالى: [من مجزوء الخفيف]
قِيلَ [لي] ابْذُلِ الذَّهَبْ
…
تتَوَلَّ قَضا حَلَبْ
قُلْتُ هُمْ يُحْرِقُوننِي
…
وَأَنا أَحْمِلُ الْحَطَبْ (1)
ومن لطائف الفرار من ولاية القضاء لعزَّة الخلاص من فتنته: ما رواه أبو نعيم عن شجاع بن الوليد قال: كان فيمن قبلكم رجل حلف لا يتزوج امرأة حتى يستشير مئة نفس، وإنه استشار تسعة وتسعين رجلًا فاختلفوا عليه، فقال: بقي واحد وهو أول من يطلع من هذا الفج، فآخذ بقوله ولا أعدوه، فبينما هو كذلك إذ طلع عليه رجل يركب قصبة، فأخبره بقصته، فقال له: النساء ثلاث: فواحدة لك، وواحدة عليك،
(1) انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (4/ 229).
وواحدة لا لك ولا عليك؛ فالبكر لك، وذات الولد عليك، والثَّيب لا لك ولا عليك.
ثمَّ قال: أطلق الجواد، فقال له: أخبرني بقصتك.
فقال: أنا رجل من علماء بني إسرائيل، مات قاضيها فركبت هذه القصبة، وتألَّهت لأخلص من القضاء.
وأخرجه المعافى بن زكريا في كتاب "الأنيس والجليس" عنه، عن حريش بن أبي الحريش بنحوه (1).
وأخرج فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حلف رجل أن لا يتزوج حتى يستشير مئة رجل، فاستشار تسعة وتسعين رجلًا، ثمَّ خرج وقال: أول من يستقبلني أستشيره، فإذا هو برجل قد طيَّن رأسه، وركب قصبة، وبيده سوط ليضرب القصبة، فلما انتهى إليه سأله، فقال له: يا عبد الله! تأخر عن الفرس؛ لا يَرْمَحُك، فركض على قصبته شوطاً، ثمَّ رجع، وقال له: هات حاجتك.
قال: إني حلفت أن لا أتزوج حتى أستشير مئة رجل، فاستشرت تسعة وتسعين رجلًا، وأنت تمام المئة.
فقال له: صاحب الواحدة إذا حاضت حاض معها، وإذا مرضت مرض معها، وإذا غابت غاب معها، وصاحب اثنتين قاض، وصاحب ثلاث ملك، وصاحب الملك مسافر.
(1) رواه المعافى بن زكريا في "الأنيس الصالح والجليس الناصح"(ص: 471).
فقال الرجل: لقد استشرت تسعة وتسعين رجلًا ما فيهم أعقل منك.
قال: أنا الذي أرادت بنو إسرائيل أن يستقضوني، ففعلت هذا كيما أنجو منهم (1).
وأحسب في غير هذه الرواية أنه قال: أراد بنو إسرائيل أن يذبحوني، ففررت من الذبح.
قيل: كيف يذبحونك؟
قال: أرادوا أن يولُّوني القضاء.
وقد اتفق التحامق فرارًا من ولاية القضاء لبعض هذه الأمة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: أجبر أمير المؤمنين؟ يعني: أبا جعفرٍ، سفيانَ -يعني: الثوري- على القضاء، فتحامق عليه ليخلص نفسه منه. رواه أبو نعيم (2).
وفرار سفيان من ولاية القضاء من بلد إلى بلد، واستخفاؤه مشهور.
وقال مسعر بن كدام رحمه الله تعالى: دعاني أبو جعفر ليوليني فقلت: أصلح الله الأمير! إن أهلي ليرددوني على أن أشتري الشيء بدرهمين، فأقول: أعطوني أشتر لكم، فيقولون: لا والله، لا نرضى
(1) رواه المعافى بن زكريا في "الأنيس الصالح والجليس الناصح"(ص: 471).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 52).
اشتراءك، فأهلي لا يرضون اشترائي الشيء بدرهمين، وأمير المؤمنين يوليني؟ أصلحك الله! إن لي قرابة وحقاً، وقد قال الشاعر:[من الوافر]
تُشارِكُنا قُرَيْشٌ في تُقاها
…
وَفِي أَنْسابِها شركَ العِنانِ
لَما وَلَدَتْ نِساءُ بَنِي هِلالٍ
…
وَما وَلَدَتْ نِساءُ بَنِي إبانِ
قال: أما والله ما لنا في العرب قرابة أحب إلينا منهم، فأعفاه. رواه أبو نعيم (1).
والبيتان المذكوران في كلام مسعر لنابغة بن جعدة أحد نوابغ الشعراء (2).
وكذلك شأن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وامتناعه عن ولاية القضاء، وضربه على ذلك مشهور، ولما دُعيَ إلى ذلك قال: أنا لا أصلح للقضاء.
فقيل له في ذلك، فقال: إن كنت صادقاً فأنا لا أصلح للقضاء، وإن كنت كاذباً فالكاذب لا يصلح للقضاء (3).
وروى أبو نعيم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنه لما ولي القضاء ركب أول يوم للقضاء، فاصطف له الناس ينظرون إليه، فقال مجنون من مجانين أهل الكوفة: انظروا إلى من جمع الله له سرور
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 215).
(2)
انظر: "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني (1/ 20).
(3)
ورواه البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 98).
الدنيا إلى حزن الآخرة.
فقال ابن أبي ليلى: لو قد سمعتها قبل أن ألي ما وليت لهم شيئاً (1).
وروى الحكيم الترمذي عن عبد العزيز بن أبي روَّاد قال: بلغني أن قاضيًا كان في زمن بني إسرائيل بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علمًا، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك، فإذا هو قصر عن الحق عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك فمد يدك في جدارك، ثمَّ انظر كيف تبلغ أصابعك من الجدار، فاخطط عندها خطًّا، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه؛ فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصرت عن الحق قصر بك.
فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد، فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاماً ولا شرابًا، ولا يفضي إلى أهله بشيء حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله، وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل ومطعم ومشرب.
فلمَّا كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقًا وخَدَنًا، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له به، فلما أن تكلما كان الحق على صاحبه، فقضى عليه، فلما قام من
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 351).
مجلسه ذهب إلى خطه فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه، فخر ساجدًا وهو يقول: يا رب! شيئًا لم أتعمده ولم أرده؛ فبينه لي.
فقيل له: أتحسبن أن الله لم يطلع على جور قلبك حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك فتقضي له به؟ قد أردته وأحببته، ولكن الله قد ردَّ الحق إلى أهله وأنت لذلك كاره (1).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "من عاش بعد الموت" عن عطاء الخراساني قال: استقضي رجل من بني إسرائيل أربعين سنة، فلما حضرته الوفاة قال: إني أرى أني هالك في مرضي هذا، فإن هلكت فاحبسوني عندكم أربعة أيام، أو خمسة أيام، فإن رابني منكم شيء فلينادني رجل منكم، فلما قضى جعل في تابوت، فلما كان بعد ثلاثة أيام آذاهم بريحه، فناداه رجل منهم: يا فلان! ما هذا الريح؟ فأذن له فتكلم، فقال: قد وليت القضاء فيكم أربعين سنة، فما رابني شيء إلا رجلان أتياني، وكان لي في أحدهما هوى، فكنت أسمع منه بأذني التي تليه أكثر مما أسمع بالأخرى، فهذه الريح منها، فضرب الله على أذنه فمات (2).
ومن لطائف الأقضية في هذه الأمة: ما روى أبو نعيم عن إبراهيم
(1) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 179).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "من عاش بعد الموت"(ص: 34).
ابن يزيد التيمي عن أبيه قال: وجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه درعًا له عند يهودي التقطها فعرفها، فقال: درعي سقطت عن جمل لي أَورق.
فقال اليهودي: درعي وفي يدي.
ثم قال له اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين.
فأتوا شريحاً، فلما رأى عليًّا تحرف عن موضعه، وجلس علي رضي الله تعالى عنه فيه، فقال علي رضي الله تعالى عنه: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تُساوُوْهُمْ في الْمَجْلِسِ، وَألْجِئُوْهُمْ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ، فَإِنْ سَبُّوكُمْ فاضْرِبُوْهُمْ، فَإِنْ ضَربُوْكُمْ فاقْتُلُوهُمْ".
ثمَّ قال شريح رحمه الله تعالى: ما تشاء يا أمير المؤمنين؟
قال: درعي سقطت عن جمل لي أورق، فالتقطها هذا اليهودي.
فقال شريح: ما تقول يا يهودي؟
قال: درعي وفي يدي.
فقال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك، ولكن لا بد من شاهدين.
فدعا قنبرًا مولاه، والحسن بن علي، فشهدا إنها لدرعه.
فقال شريح: أما شهادة مولاك فقد أجزناها، وأما شهادة ابنك فلا نجيزها.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: ثكلتك أمك! أما سمعت عمر