الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك أن بني إسرائيل كان الواحد منهم يرتكب المعصية بينه وبين الله، فكان يستخف بها، ويستصغرها، ويمضي عليها حتى تصير له خُلُقًا، ثم يرتكب الأخرى كذلك حتى تهون عليه المعاصي، فينتقل إلى ظلم الناس واعتدائه عليهم، ويسترسل فيه حتى يفعل العظائم فيقتل، ويكفر، ويطغى ويفجُر، فلمَّا تواردوا على المعاصي استجر بهم إلى قتل الأنبياء، والكفر بالآيات، فبين الله تعالى أنه غضب عليهم وأذلهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء، وأنَّ سبب كفرهم وقتلهم الأنبياء الاسترسال في المعاصي والعدوان حتى صار العدوان لهم خُلُقًا، فقتلوا الأنبياء، وكفروا بالآيات.
وروى ابن أبي الدنيا في "العقوبات" عن حذيفة رضي الله عنه قال: ما استخفَّ قوم بحق الله إلا بعث الله عليهم من يستخف بهم، ولا أهان قوم أمر الله إلا أهانهم الله، ولا ارتكب قوم محارم الله إلا ركبهم الذل.
214 - ومنها: أنهم كانوا مع انهماكهم في المعاصي يتمنون على الله المغفرة
.
وهذا غاية الغرور، وهذا يغلب في هذه الأمة على أكثرهم، وربما زَّينه لهم علماء السوء.
قال الله تعالى في بني إسرائيل: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
وروى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ؛ قال: النصارى (1).
والظاهر أن الخلف أعم من النصارى، ومنهم ومن هذه الأمة.
وهم -كما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه -: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها، ويتبعون رُخَص القرآن، ويقولون: سيغفر لنا.
لا يعرض لهم شيء من أمر الدنيا إلا أخذوه، ويقولون: سيغفر لنا (2).
وروى سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى في الآية قال: كانوا يعملون بالذنوب، ويقولون: سيغفر لنا (3).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1607)، وكذا الطبري في "التفسير"(9/ 105).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 593).
(3)
رواه سعيد بن منصور في "السنن"(5/ 159)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1608)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(8503).
وقال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم، فإذا قيل له يقول: سيغفر لي. رواه أبو الشيخ (1).
وما أشبه هذا بحال قضاة هذا الزمان وولاته، وأعجب منه من يحسن لهم حالهم، ويطمعهم أن يبلغوا بمجرد الاستغفار آمالهم.
ولقد قال عطاء رحمه الله تعالى في الآية: يأخذون ما عرض لهم من الدنيا، ويقولون: نستغفر الله ونتوب إليه. أخرجه ابن أبي حاتم (2).
أي: يقولون ذلك من غير إقلاع، بل مع الإصرار.
وقال أبو الجلد رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان تخرب صدورهم من القرآن، ويتهافت ويبلى كما يبلى الثوب، لا يجدون له حلاوة ولا لَذاذة، إن قصروا عما أمروا قالوا: إن الله غفور رحيم، وإن عملوا بما نهوا عنه قالوا: سيغفر لنا إنَّا لا نشرك بالله شيئًا، أمرهم كله طمع ليس فيه خوف، لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، أفضلهم المُدْهن. رواه أبو الشيخ (3).
ولنختم هذا الباب بلطائف من أخبار أهل الكتاب:
روى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ وَلا حَرَجَ"(4).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1608).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ورواه أبو داود (3662).
أي: حدِّثوا عنهم ما علمتم إن وقع فيه.
ولا حرج؛ أي: وإن كان فيما تحدثون عنهم العجائب والأمور المستبعدة.
وليس معناه إجرارَ التحديث بما لم يرد عنهم، أو بكل ما ذكر عنهم.
وروى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرائِيْلَ وَلا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيتَبَوَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"(1).
وروى الإمام مالك، والبخاري، والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنما أَجَلُكُمْ فِيْما خَلا مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاةِ العَصْرِ إلَى مَغارِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّما مَثَلُكُم وَمَثَلُ اليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غَدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهارِ عَلَى قِيْراطِ قِيْراطٍ، فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهارِ إلَى صَلاةِ العَصْرِ عَلَى قِيْراطِ قِيْراطٍ، فَعَمِلَتِ النَّصارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ مِنَ العَصْرِ إلَى أَنْ تَغِيْبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ، فَأَنتُمْ هُمْ، فَغَضِبَ اليَهُودُ والنَّصارَى؛ قالُوا: مَا لَنا أَكثَرَ عَمَلاً وَأقلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: هَلْ ظَلَمَكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئاً؟ قالُوا: لا، قَالَ:
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 159)، والبخاري (3274)، والترمذي (2669).
فَذَلِكَ فَضْلِي أُوْتيْهِ مَنْ أَشاءُ" (1).
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَلُ الْمُسْلِمِيْنَ واليَهُودِ والنَّصارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا يَوْماً إلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُوْمٍ، فَعَمِلُوا لَهُ إلَى نِصْفِ النَّهارِ، فَقَالُوا: لا حَاجَةَ لَنا في أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنا، وَما عَمِلْنا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لا تَفْعَلُوا، أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا، فَأَبَوْا وَتَرَكُوا، واسْتَأْجَرَ آخَرِيْنَ بَعْدَهُمْ فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذا كانَ حِيْنُ صَلاةِ العَصْرِ قَالُوا: كُلُّ ما عَمِلْنا بَاطِلٌ، وَلَكَ الأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ؛ فَإِنَّما بَقِيَ مِنَ النَّهارِ شَيْءٌ يَسِيْرٌ، فَأَبَوْا، واسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غابَت الشَّمْسُ، فاسْتكمَلُوا أَجْرَ الفَرِيْقَيْنِ كِلَيْهِما، فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ ما قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّوْرِ"(2).
قلت: حديث ابن عمر السابق فيه إشارة إلى ما أكرم الله به هذه الأمة من تقليل أعمارهم، وتقريب مدة التكليف عليهم مع مضاعفة أجورهم على أجور من تقدمهم.
وحديث أبي موسى هذا فيه إشارة إلى استكمال هذه الأمة لما كلفهم الله تعالى به من طاعته، ووفائهم بما أخذ عليهم من العهود مما
(1) رواه البخاري (3272)، والترمذي (2871).
(2)
رواه البخاري (2151).
قصر فيه أهل الكتابين كالجمعة، وصوم رمضان، وخصال الفطرة، وإخلاص الدين؛ فوفَّاهم الله ثواب أعمالهم الذي فات أولئك.
ومن ثم: "إِذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ دَفَعَ اللهُ تَعالَى إِلَى كُل مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرانِيًّا، فَيَقُولُ لَهُ: هَذا فِداؤُكَ مِنَ النَّارِ". رواه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (1).
وروى مسلم من حديثه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَجِيْءُ يَوْمَ القِيامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ بِذُنُوْبٍ أَمْثالِ الْجِبالِ؛ يَغْفِرُها اللهُ لَهُمْ وَيَضَعُها عَلَى اليَهُوْدِ"(2).
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أَنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ ثَلاثَةً في بِنَي إِسْرائِيْلَ؛ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى بَدا للهِ تَعالَى أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ؛ قَدْ قَذِرَنِي النُّاسُ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ، فأُعْطِيَ لَوْناً حَسَناً وَجِلْدًا حَسَنًا.
فَقالَ: أيُّ الْمَالِ أَحَبَّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الإِبِلُ، أَوْ قَالَ: البَقَرُ؛ هُوَ شَكَّ في ذَلِكَ أَنَّ الأَبْرَصَ والأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُما: الإِبِلُ، وَقَالَ أَحَدُهُما: البَقَرُ.
(1) رواه مسلم (2767).
(2)
رواه مسلم (2767).
فَأُعْطِيَ نَاقَةً عشَراءَ، فَقالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها.
وَأتى الأَقْرَعَ فَقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبَ عَنِّي هَذا؛ قَدْ قَذِرَني النَّاسُ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا.
قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: البَقَرُ.
فَأَعْطاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، قَالَ: يُبارَكُ لَكَ فِيْها.
وَأتَى الأَعْمَى فَقالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: يَرُدُّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِيْ، فأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ.
قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الغَنَمُ.
فأَعْطاهُ شاةً والِدًا.
فَأُنْتِجَ هَذانِ، وَوَلَّدَ هَذا، فَكانَ لِهَذا وادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذا وادٍ مِنَ البَقَرِ، وَلِهَذا وادٍ مِنْ غَنَمٍ.
ثُمَّ إنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ في صُوْرَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبالُ في سَفَرِهِ، فَلا إِبْلاغَ اليَومَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ بِالَّذِيْ أَعْطاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ والْجِلْدَ الْحَسَنَ بَعِيْرًا أتبَلَّغُ عَلَيْهِ في سَفَرِي.
فَقالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوْقَ كَثِيْرَةٌ.
فقالَ لَهُ: كأَنِّي أَعْرِفُكَ؛ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ؟ فَقِيْرًا فَأَعْطاكَ اللهُ؟
فَقَالَ: وَرِثْتُ هَذا كابِرًا عَنْ كابِرٍ.
فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَى ما كُنْتَ.
وَأتَى الأَقْرَعَ في صُوْرتَهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقالَ لَهُ مِثْلَ ما قَالَ لِهَذا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ما رَدَّ عَلَيْهِ هَذا، فَقالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللهُ إلَى ما كُنْتَ.
وَأتَى الأَعْمَى في صُوْرتهِ، فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ مِسْكِيْنٌ، وابْنُ سَبِيْلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْألكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شاةَ أتَبَلَّغُ بِها في سَفَرِي.
فَقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ عَلَيَّ بَصَرِي، فَقِيْرًا [فَقَدْ أَغْنَاني] فَخُذْ ما شِئْتَ؛ فَواللهِ [لا أَجْهَدُكَ] اليَوْمَ شَيئًا أَخَذْتَهُ للهِ.
فَقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ؛ فَإِنَّما ابْتُلِيْتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صاحِبَيْكَ" (1).
وروى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والترمذي، والنسائي عن صهيب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى العصر همس، فقيل له: يا رسول الله! إنك إذا صليت العصر همست؟
(1) رواه البخاري (3277)، ومسلم (2964).
فقال: "إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِياءِ كَانَ أُعْجِبَ بِأُمَّتِهِ فَقالَ: مَنْ يَقُوْمُ لِهَؤُلاءِ؟ فأوْحَى اللهُ تَعالَى إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ أَنْ أَنتقِمَ وَبَيْنَ أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فاخْتارُوا النِّقْمَةَ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ في يَوْمٍ سَبْعُونَ ألفًا"(1).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حدَّث بهذا الحديث قال: "كانَ مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كاهِنٌ يكهنُ لَهُ، فَقالَ الكاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلامًا فَهِماً، أَوْ قَالَ: فَطِنًا لَقِناً، فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي هَذا؛ فَإِنِّي أَخافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَنْقَطِعَ عَنْكُمْ هَذا العِلْمُ، قَالَ: فَنَظَرُوا غُلامًا عَلَى ما وَصَفَ، فَأَمَرُوْهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الكاهِنَ، وَأَنْ يَخْتَلِفَ إِلَيْهِ".
[وروى] عبد بن حميد هذا الحديث، والإمام أحمد عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كانَ مَلِكٌ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ لَهُ ساحرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ السَّاحِرُ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَحضَرَ أَجَلِي، فادْفَعْ إِلَيَّ غُلامًا لأُعَلِّمَهُ السِّحْرَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلامًا، وَكانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ، وَكانَ بَيْنَ السَّاحِرِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ رَاهِبٌ".
وقال في الرواية الأولى: "وَكانَ عَلَى طَرِيْقِ الغُلامِ راهِبٌ في صَوْمَعَةٍ، فَجَعَلَ الغُلامُ يَسْأَلُ ذَلِكَ الرَّاهِبَ كُلَّما مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(9751)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(482)، والترمذي (3340) وحسنه، والنسائي في "السنن الكبرى"(11661).
حَتَّى أَخْبَرَهُ، فَقالَ: إِنَّما أَعْبُدُ الله، فَجَعَلَ الغُلامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرَّاهِبِ، وَيُبْطِئُ عَلَى الكاهِنِ، فَأَرْسَلَ الكاهِنُ إلَى أَهْلِ الغُلامِ: إِنَّهُ لا يَكادُ يَحْضُرُني، فأَخْبَرَ الغُلامُ الرَّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِذا قَالَ لَكَ الكاهِنُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْ: عِنْدَ أَهْلِي، وَإِذا قَالَ لَكَ أَهْلُكَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّكَ كُنْتَ عِنْدَ الكاهِنِ، فَبَيْنَما الغُلامُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ مَرَّ بِجَماعَةٍ مِنَ النَّاسِ كَثِيْرَةٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ دابَّهٌ يُقالُ: كانَتْ أَسَدًا، فَأَخَذَ الغُلامُ حَجَرًا، فَقالَ: إِنْ كانَ ما يَقُوْلُ الرَّاهِبُ حَقًّا فَأَسْألُكَ أَنْ أَقْتُلَ هَذهِ الدَّابَّةَ، وَإِنْ كانَ ما يَقُولُ الكاهِنُ حَقًّا فَأَسْألُكَ أَنْ لا أَقْتُلَها، ثُمَّ رَمَى فَقَتَلَ الدَّابَّةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ قتلَها؟ فَقَالُوا: الغُلامُ، فَفَزِعَ النَّاسُ، وَقالُوا: قَدْ عَلِمَ هَذا الغُلامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ، فَسَمِعَ أَعْمَى فَجَاءَهُ".
وقال في الرواية الثانية: "فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذا أتَى ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى دَابَّةٍ فَظِيْعَةٍ عَظِيْمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلا يَسْتَطِيْعُوْنَ أَنْ يَجُوْزُوا، فَقَالَ الغُلامُ: اليَوْمَ أَعْلَمُ؛ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَى اللهِ أَمْ السَّاحِرُ، فأَخَذَ حَجَرًا فَقالَ: اللهُمَّ إِنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضى لَكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقْتُلْ هَذهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ الناسُ، وَرَمَاها فَقَتَلَها، وَمَضَى النَّاسُ، فَأُخْبِرَ الرَّاهِبُ بِذَلِكَ، فَقالَ: أَيْ بُنَي! أَنْتَ أَفْضَلُ مِني وَإِنَّكَ سَتُبْتلَى، فَإِذا ابْتُلِيْتَ فَلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكانَ الغُلامُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَسائِرَ الأَدْواءِ وَيَشْفِيهِمْ، وَكانَ جَلِيْسُ الْمَلِكِ أَعْمَى فَسَمعَ بِهِ، فَأَتاهُ وَأتاهُ بِهَدايَا كَثِيْرَةٍ، فَقالَ: اشْفِنِيْ وَلَكَ ما هَا هُنا، فَقالَ: ما أَشْفِي أَنَا أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ؛ فَإِنْ آمَنْتَ باللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفاكَ، فآمَنَ فَدَعا الله، فَشَفاهُ،
ثُمَّ أتى الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كانَ يَجْلِسُ، فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: يا فُلانُ! مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: لا. قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌ غَيْرِيْ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ فَقَالَ: أَيْ بُنَي! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ تُبْرِئَ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وَهَذِهِ الأَدْوَاءَ، قَالَ: ما أَشْفِي أَنا أَحَدًا ما يَشْفِي غَيْرُ اللهِ، قَالَ: أَنا؟ قَالَ: لا، قَالَ: وإِنَّ لَكَ رَبًّا غَيْرِيْ؟ قَالَ: نعمْ، رَبِّي وَربُّكَ اللهُ، فأَخَذَهُ أَيْضاً بِالعَذابِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَقالَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِيْنَكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ عَلَى الأَرْضِ، وَقالَ لِلأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِيْنكَ، فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلىَ مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقّاهُ إلَى الأَرْضِ".
وقال في الرواية الأولى: "فَجاءَهُ فَقالَ: إِنْ أَنْتَ رَدَدْتَ بَصَرِي فَلَكَ كَذا وَكَذا، فَقال الغُلامُ: لا أُريدُ مِنْكَ هَذا، وَلَكِنْ أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعَ عَلَيْكَ بَصَرُكَ أتؤْمِنُ بِالَّذِيْ رَدَّهُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نعمْ، فَدَعا الله فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فآمَنَ الأَعْمَى، فَبَلَغَ الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فأُتِيَ بِهِمْ، فَقالَ: لأَقْتُلَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لا أَقْتُلُ بِها صاحِبَهُ، فَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ وَالرَّجُلِ الَّذِيْ كَانَ أَعْمَى فَوَضَعَ الْمِيْشارَ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِما، فَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ الآخَرَ بِقِتْلَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ أَمَرَ بِالغُلامِ فَقالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذا فَأَلْقُوْهُ مِنْ رَأْسِهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا انتهَوْا إلَى
ذَلِكَ الْمَكانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوْهُ مِنْهُ فَجَعَلُوا يَتَهافتوْنَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَيَتَرَدَّوْنَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلا الغُلامُ، ثُمَّ رَجَعَ الغُلامُ، فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكُ أَنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى البَحْرِ فَيُلْقُوْهُ فِيْهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلَى البَحْرِ، فَأَلْقَى القَوْمُ الغُلامَ، فَغَرَّقَ اللهُ الَّذِيْنَ كانُوا مَعَهُ، وَأَنْجاهُ اللهُ، فَقالَ الغُلامُ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لا تَقْتُلُنِي حَتَّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَني، وَتَقُوْلَ إِذا رَمَيْتَنِي: بِسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، فأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، ثُمَّ رَماهُ وَقالَ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلامِ، فَوَضَعَ الغُلامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِيْنَ رُمِيَ، ثُمَّ ماتَ، فَقالَ النَّاسُ: لقَدْ أوْتِيَ هَذا الغُلامُ عِلْماً ما عَلِمَهُ أَحدٌ؛ فَإِنَّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذا الغُلامُ.
فَقِيْلَ لِلْغُلامِ: إِنْ خالَفَكَ ثَلاثةٌ فَهَذا العالَمُ كُلُّهُمْ قَدْ خالَفُوكَ.
قَالَ: فَخَدَّ أُخْدُوْداً، ثُمَّ أُلقِيَ فِيْها الْحَطَبَ والنَّارَ، ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَقالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنهِ تَرَكْناهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ ألقَيْناهُ في هَذِهِ النَّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيْهِمْ في تِلْكَ الأخْدُوْدِ، فَقالَ: يَقُولُ اللهُ عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} حتى بلغ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 4 - 8] ".
فأمَّا الغلامُ فإنَّه دفن ثم أخرج فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطَّاب رضي الله تعالى عنه وأصبعه على صُدغه كما وضعها حين قُتل.
وقال في الرواية الثانية: "فقالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَقِيْلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَر، فَقَدْ واللهِ نزَلَ بِكَ هَذَا مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَأَمَرَ بِأَفْواهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ فِيْها الأُخْدُوْدُ، وَأُضْرِمَتْ فِيْها النِيْرانُ، وَقالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِيْنهِ فَدَعُوْهُ، وَإِلَّا فأَقْحِمُوْهُ فِيْها، فَكَانُوا يَتَقاحَمُونَ
فِيْها وَيَتَدافَعُوْنَ، فَجاءَتِ امْرَأةٌ بِابنٍ لَها صَغِيْر فَكَأَنَّها تَقاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ في النَّارِ، فَقالَ الصَّبِيُّ: يا أُمَّهْ! اِصْبِرِيْ؛ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ" (1).
وروى ابن جرير عن ابن عباس: أنَّ أصحاب الأخدود ناس من بني إسرائيل (2).
وعن عكرمة: أنهم كانوا من القبط (3).
وروى ابن المنذر عن مجاهد: أنَّ الأخدود شَقٌّ بنجران كانوا يعذبون الناس فيه (4).
وعن الحسن، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أن أصحاب الأخدود الحبشة (5).
وعن قتادة: أن علياً رضي الله تعالى عنه كان يقول: هم أناس بمزارع اليمن (6).
وروى ابن عساكر عن عبد الله بن جبير بن نفير قال: كانت الأخدود زمان تُبَّع (7).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 16)، وكذا مسلم (3005).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(30/ 132).
(3)
نظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 465)، وعنده:"النهط" بدل "القبط".
(4)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 465).
(5)
انظر: "تفسير ابن أبي حاتم"(10/ 3413).
(6)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 465).
(7)
ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3413) عن عبد الرحمن بن نفير.
وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن يحيى عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان نبي أصحاب الأخدود حبشياً" (1).
وروى عبد بن حميد عن سلمة بن كُهيل قال: ذكروا أصحاب الأخدود عند علي رضي الله تعالى عنه فقال: أما إن فيكم مثلهم، فلا يكوننَّ أعجز من قوم (2).
وعن الحسن مرسلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا ذَكَرْتُ أَصْحابَ الأُخْدُوْدِ إلا تَعَوَّذْتُ باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ"(3).
وروى ابن أبي شيبة عن عوف قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جَهْد البَلاء (4).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وسُوْءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ"(5).
وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي عن خَبَّاب ابن الأَرَتِّ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذ فَيُحْفَرُ لَهُ في
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3413)
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 467).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 466).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34333).
(5)
رواه البخاري (6242).
الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهِ، وَيُجاءُ بِالْمِيْشارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ؛ مَا يَصدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِيْنهِ.
واللهِ لَيُتمَّنَّ هَذا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعاءَ إلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخافُ إِلَّا الله والذِّئبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنكُمْ تَسْتَعْجِلُوْنَ" (1).
وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ رَجُلانِ في بَنِي إِسْرائِيْلَ مُتآخِيانِ، وَكَانَ أَحَدُهُما مُذْنِبًا، والآخَرُ مُجْتَهِدًا في العِبادَةِ، وَكَانَ لا يَزالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْب، فَيَقُوْلُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقالَ: خَلِّنَي وَرَبِي؛ أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيْباً؟ فَقَالَ: واللهِ لا يُغْفَرُ لَكَ، أَوْ: لا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ رُوْحَهُما، فاجْتَمَعا عِنْدَ رَبِّ العالَمِيْنَ، فَقالَ لِهَذا المُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِيْ عالِمًا؟ أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يدي قَادِرًا؟ وَقالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقالَ للآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ"(2).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن أيوب: أنه كان في بني إسرائيل عابد كان يُقال: عابد بني إسرائيل، وكان فيهم رجل فاسد كان يُقال له: خليع بني إسرائيل، فمرَّ ذلك الذي يُقال له: خليعٌ بالعابد
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 109)، والبخاري (3416)، وأبو داود (2649)، والنسائي (5320).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 323)، وأبو داود (4901).
وهو قائم يصلي، فقال: هذا عابد بني إسرائيل، وأنا خليع بني إسرائيل، فلو دنوت منه لعلها أن تنزل عليه رحمة فيصيبني من ذلك، فدنا منه، فعرض في صدره: أنا عابد بني إسرائيل، وهذا خليع بني إسرائيل، فما أدناه مني وما قرَّبه إلي؟ [فأنف منه، وقال له: قم عني] قال: فنزل الوحي على نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن مُر هذين فليستأنفا العمل [فقد غفرت للخليع، وأحبطت عمل العابد](1).
وروى ولده في "زوائده" عن كعب رحمه الله تعالى قال: كان رجل أعطاه الله عز وجل في الدنيا نهرًا، وكان ناس من الناس يعيشون في فضل مائه، فأتاه الشيطان فقال: حتى متى يعيش هؤلاء من فضل نهرك ولا يعينونك في نفقته ولا مؤنته؟
قال: فجمعهم، فقال لهم ذاك.
فقالوا: الحق حقك، فإن ترفقنا فأنت أهل ذلك، فسكَّره عنهم.
قال: فيوقف للحساب يوم القيامة، فيقول الله تعالى يوم القيامة: يا عبد الله! أعطيتك في الدنيا نهرًا؟
فيقول: نعم.
قال: كان عباد من عبادي يعيشون في فضل مائك؟
فيقول: نعم، أي رب.
قال: فسكَّرته عنهم؟
(1) وانظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 349).
قال: نعم، أي رب.
قال: يقول الله عز وجل: وعزتي لأمنعنك اليوم فضلي.
قال: يقول كعب: هلك الرجل.
وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا بلغ المبلغ يمشي في الناس تظله غمامة، فمرَّ رجل قد أظلته غمامة على رجل، فأعظمه لما رآه مما آتاه الله عز وجل.
قال: فاستحقره صاحب الغمامة، أو قال كلمة بنحوها.
قال: فأمرت أن تتحول من رأسه إلى رأس الذي عظَّم أمر الله عز وجل (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب: أن سائحًا دخل قرية فإذا رجل من عظماء تلك القرية قد توفي، فخرج منها، فقال: لا أقبر هذا الجبار.
ثم نام نومة، فجاءه جاءٍ فقال: يا فلان! هل تملك من رحمة الله شيئاً؟
قال: لا، حتى قال ذلك ثلاث مرات، وهو يقول: لا.
قال: وما يدريك ما أحدث في وجهه هذا؟ (2)
وعن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كانت أخيار بني إسرائيل الصغير منهم والكبير لا يمشون إلا بالعصا مخافة أن يختال في مشيه (3).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 226).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 102).
(3)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(5/ 238).
قلت: لعل الأصل في ذلك اتخاذ موسى عليه الصلاة والسلام العصا.
وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كَانَ في بَنِي إِسْرائِيْلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِيْنَ إِنْسَاناً، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِباً فَسَأَلَهُ، فَقالَ: لَهُ تَوْبَةٌ؟ فَقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَل، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذا وَكَذا، فأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَناءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَها، فاخَتَصَمَ فِيْهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ العَذابِ، فَأَوْحَى اللهُ إلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى إلَى هَذَهِ أَنْ تَباعَدِيْ، وَقَالَ: قِيْسُوا ما بَيْنَهُما، فَوُجِدَ إلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِيَسِيْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ"(1).
وروى الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كَانَتِ امْرَأَتانِ مَعَهُما ابْناهُما، جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْداَهُمَا، فَقالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقالَتِ الأُخْرَى: إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحاكَما إلَى دَاوُدَ عليه السلام، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرى، فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمانَ بنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتاهُ، فَقالَ: ائتوْنِي بِالسِّكَيْنِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُما، فَقالَتِ الصُّغْرَى: لا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى"(2).
(1) رواه البخاري (3283)، ومسلم (2766).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 322)، والبخاري (6387)، ومسلم (1720)، والنسائي (5402).
وهذا القضاء ممَّا فهَّمهُ اللهُ تعالى سليمان عليه السلام.
وروى ابن أبي شيبة، وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل، وكانت تبتَّلت، وكانت لها جاريتان جميلتان، وقد تبتلت المرأة لا تريد الرجال، فقالت إحدى الجاريتين للأخرى: قد طال علينا هذا البلاء، أما هذه فلا تريد الرجال، ولا نزال بشر ما كنا لها، فلو أنَّا فضحناها فرجمت، فصرنا إلى الرجال.
فأخذتا ماء البيض، فأتتاها وهي ساجدة، فكشفتا عنها ثوبها، ونضحتا في دبرها ماء البيض، وصرختا: إنها قد بغت -وكان من زنى فيهم حده الرجم- فدفعت إلى داود عليه السلام وماء البيض في ثيابها، فأراد رجمها، فقال سليمان عليه السلام: ائتوا بنار؛ إن كان ماء الرجال تفرق، وإن كان ماء البيض اجتمع.
فَأُتِيَ بنار فوضعها عليه فاجتمع، فدرأ عنها الرجم، فعطف داود على سليمان فأحبه.
ثم كان بعد ذلك أمر أصحاب الحرث وأصحاب النساء، فقضى داود لأصحاب الحرث بالغنم، فخرجوا، وخرجت الرعاء ومعهم الكلاب، فقال سليمان: كيف قضى بينكم؟
فأخبروه، فقال: لو وليت أمرهم لقضيت بينهم بغير هذا القضاء، فقيل لداود: إنَّ سليمان يقول كذا وكذا، فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم؟
فقال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث هذا العام، فيكون لهم أولادها ونسلائها وألبانها ومنافعها، ويبدل أصحاب الغنم لأصحاب الحرث حرثهم، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ هؤلاء الحرث، ودفعوا إلى هؤلاء الغنم (1).
وذلك ما وقعت إليه الإشارة بقوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79].
وقيل: كان الحرث كرماً (2).
وروى ابن عساكر عن ابن عباس: أن امرأة حسناء في بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها، فشهدوا عليها عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان عليه السلام، واجتمع معه ولدان مثله، فانتصب حاكماً، وتزيا أربعة بزي أولئك، وآخر بزيِّ المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً، فقال سليمان: فرقوا بينهم، فسأل أولهم: ما كان لون الكلب؟
فقال: أسود.
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31894).
(2)
انظر: "تفسير الطبري"(17/ 51).
فعزله، واستدعى الآخر، فسأله عن لون الكلب.
فقال: أحمر.
وقال الآخر: أغبش.
وقال الآخر: [أبيض].
فأمر عند ذلك بقتلهم.
فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة، فسألهم متفرقين، فسألهم عن ذلك الكلب فاختلفوا، فأمر بقتلهم (1).
ولعل استفسار داود للشهداء كان بعد رجم المرأة، فلذلك قتلهم قصاصًا.
وفي قصة سليمان وأبيه يقضي الحكم إذا خالف قياسًا جليًا، وأنَّ القاضي العالم إذا اجتهد وأخطأ لا يضره ذلك وهو مأجور، وإنما يأثم القاضي الجاهل وإن اجتهد لأن اجتهاده عن غير علم موافق.
وقد روى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر من طريق حمَّاد بن سلمة عن حميد الطويل: أنَّ إياس بن معاوية لما استقضي أتاه الحسن فرآه حزينًا، وبكى إياس، فقال: ما يبكيك؟
قال: يا أبا سعيد! بلغني أن القضاة ثلاثة: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة.
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(22/ 232).
فقال الحسن: إنَّ فيما قضى الله تعالى من ثناء داود ما يرد ذلك، ثمَّ قرأ:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} حتى بلغ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79].
فأثنى على سليمان ولم يذم داود.
ثمَّ قال: أخذ الله على الحكام ثلاثة: أن لا يشتروا ثمنًا قليلًا، ولا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا الناس، ثمَّ تلا هذه الآية:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] الآية.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44](1).
وفي معنى كلامه قال والدي في "تفسيره": [من الرجز]
قَدْ أَخَذَ اللهُ عَلى الْحُكَّام
…
ثَلاثَةً أَوَّلُها التَّحامِي
عَنِ الْهَوى والثَّانِيْ أَنْ لا يَخْتَشُوا
…
النَّاسَ والثَّالِثُ أَنْ لا يَرْتَشُوا
وروى أبو نعيم عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: كانت القضاة ثلاثة -يعني: في بني إسرائيل- فمات واحد، فجعل آخر مكانه، فقضوا ما شاء الله أن يقضوا، فبعث الله عز وجل ملكاً على فرس، فمرَّ على
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(10/ 25).
رجل يسقي بقرة معها عجل، فتبع العجل الفرس، فتبعه صاحب العجل فقال: يا عبد الله! عجلي.
فقال الملك (1): عجلي وهو ابن فرسي، فخاصمه حتى أعياه، فقال: القاضي بيني وبينك، قال: قد رضيت.
قال: فارتفعا إلى أحد القضاة.
قال: فتكلم صاحب العجل، فقال: إنه مرَّ بي على فرسه فدعا عجلي، فتبعه، فأبى أن يرده، قال: ومع الملك ثلاث دُرَّات لم ير الناس مثلها، فأعطى القاضي درة، فقال: اقض لي.
فقال: كيف يسوغ هذا لي؟
قال: تخرج البقرة والفرس، فإذا تبع العجل الفرس عذرت.
قال: ففعل ذلك.
قال: ثم أتى الآخر ففعل مثل ذلك، ثم أتى الثالث وناوله الدرة فلم يأخذها.
وقال: لا أقضي بينكما اليوم؛ فإني حائض.
فقال الملك: سبحان الله هل يحيض الرجل قال: سبحان الله! هل تنتج الفرس عجلًا؟ فقضى لصاحب البقرة (2).
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: كان رجل من
(1) في "أ": "العجل".
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 332).
بني إسرائيل يعمل بمسحاة له، فأصاب أباه فشجه، فقال: لا يصحبني ما فعل بأبي ما فعل، فقطع يده، فبلغ ذلك بني إسرائيل، ثم إن ابنة الملك أرادت أن تصلي في بيت المقدس فقال: مع من نبعث بها؟ قالوا: فلان، فبعث إليه فقال: أعفني، فقال: لا، قال: فأجلني إذًا أيامًا، قال: فذهب فقطع مذاكيره، فلما برأ وضع مذاكيره في حق، ثم جاء به وخاتمه عليه، فقال: هذه وديعتي عندك فاحفظها.
قال: ونزله الملك منزلًا منزلًا، أنزل يوم كذا وكذا، فإذا أتيت بيت المقدس فأقم فيه كذا وكذا، وإذا أقبلت فأقبل يوم كذا وكذا، فوقَّت له وقتاً، فلما سار جعلت ابنة الملك لا تقتدي به تنزل حيث شاءت، وترحل متى شاءت، وجعل إنما يحرسها وينام عندها، فلما قدم عليه قالوا له: إنما كان ينام عندها.
قال له الملك: خالفت أمري، وأراد قتله.
فقال: اُردد علي وديعتي، فلما ردها فتح الحق، وكشف عن مثل الراحة، ففشا ذلك في بني إسرائيل، قال: فمات قاض لهم، فقالوا: من نجعل مكانه، قالوا: فلان، فأبى، فلم يزالوا به حتى قال: دعوني حتى أنظر في أمري، فكحل عينيه بشيء حتى ذهب بصره.
قال: ثم جلس على القضاء، فقام ليلة فدعا الله، فقال: اللهم إن كان هذا الذي صنعت لك فيه رضي فاردد عليَّ خَلْقي أحسن ما كان.
قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره ومقلتيه أحسن ما كانتا، ويده، ومذاكيره (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 353).
واعلم أنَّ مثل ذلك من عقوبات النفس ليس جائزًا في شريعتنا؛ لأنَّ الله تعالى رفع عن هذه الأمة مثل هذه الأخبار، وفي آداب الشريعة كالندم على الذنب، وكسر النفس بالصوم، والاعتصام بالله ما يغني عن ذلك.
وفي هذا الأثر ما يدل على أنَّ قضاء الأعمى كان نافذًا في بني إسرائيل، وأما في شريعتنا فلا تصح تولية الأعمى القضاء، ولا قضاؤه على أرجح المذاهب.
وروى الضياء المقدسي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رجلاً هلك على عهد داود عليه السلام، فغدا فلم يَدْرِ أحد كيف هلك، وخلف ولدًا صغيرًا، فربته أمه حتى ترعرع، ثم انطلقت به فأجرته من رجل صائغ شهرًا معلومًا ليتعلم صنعته، فتقاضاه الصبي ببعض أجرته، فلطمه أستاذه لطمة آلمته، فخرج وهو يتأوه ويبكي، فلقيه داود عليه السلام فقال: مالك يا غلام؟
فقال: يا خليفة الله! إنَّ أمي آجرتني من رجل، فعملت اليوم شهرًا، فطالبته اليوم ببعض أجرتي لشهوة عرضت في نفسي، فلطمني فآلمني.
فشقَّ على داود ذلك، فنزل الوحي في الحال: يا داود! اقطع يد الرجل.
فأحضره وأمر بقطع يده، فاجتمعت بنو إسرائيل وقالت: يا نبي الله! راجع ربك واسأله التخفيف؛ فإن ذلك سنة تبقى إلى آخر الدهر.
فسجد داود وسأل ربه، وقال: يا رب! إنَّ بني إسرائيل جزعت أن يكون كل من لطم يتيماً قطعت يده، وهي تسأل التخفيف في هذه العقوبة.
وبنو إسرائيل مزدحمون عليه ينتظرون الجواب، والرجل واقف يرعد.
فنزل الوحي: إنك إذا قطعت يد الرجل فاصلبه، ولا تراجعني فيه، وأعط ماله للصبي.
فأخبرهم وقال: إن كان جزعتم من قطع اليد فقد نزل أعظم منه؛ الصلب بعد قطع اليد، وأخذ ماله للصبي، ونهاني عن المراجعة في ذلك.
فتقدم وجعل خشبة في الأرض، وأمر بأخذه ليصلب، فضج بنو إسرائيل، وبكى بعضهم، وشق عليهم، فلما دنا الرجل من الخشبة التفت، وقال: يا أيها الناس! أشهدكم على نفسي أن ربي تعالى ما ظلمني، وليست سنة تبقى عليكم، أنا والله خلوت بأبي هذا الغلام، فمانعني على حرفته، فكسرت يده، وأخذت المال، ثم قتلته وأخفيته، فاليد باليد، والنفس بالنفس، والمال بالمال حكمًا عدلًا، ثم صلب، وأخذ الغلام ماله.
وروى الضياء المقدسي عن وهب بن منبه رحمه الله تعالى قال: كان عابدًا من عباد بني إسرائيل يعبد الله في صومعة له، وحوَّار يحور
الثياب في نهر أسفل الصومعة، فجاء فارس فنزع ثيابه، وحل هِمْيانه فاغتسل، والراهب يراه، ثم خرج ولبس ثيابه، واستوى على فرسه، ونسي هميانه، ومضى، وجاء صياد وفي يده شبكة يتصيد السمك، فرأى الهميان فأخذه ومضى، ورجع الفارس وقال للحوار: همياني نسيته ها هنا.
فقال: ما رأيت شيئًا.
فسَلَّ سيفه وقتله.
وكاد الراهب أن يفتتن، فقال الراهب: إلهي وسيدي! أيأخذ الصياد الهميان ويقتل الحوار؟
فلما أن كان الليل أوحى الله إليه في منامه: أيها العبد الصالح! لا تفتتن، ولا تدخل في علم ربك؛ فربك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
إن هذا الفارس قتل أبا الصياد وأخذ ماله، وهذا الحوار كانت صحيفته مملوءة بالسيئات، ولم يكن له إلا حسنة واحدة، فلما قتل الحوار امتحيت حسنة وسيئة الحوار، ورجع المال إلى صاحبه (1).
وروى [عبد الله ابن] الإمام [أحمد] في "زوائد الزهد" عن شميط ابن عجلان رحمه الله تعالى قال: كان عابد في بني إسرائيل يقول في دعائه: اللهم أعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى (2).
(1) ورواه الجرجاني في "تاريخ جرجان"(ص: 81).
(2)
ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(ص: 36).
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "الورع" عن كعب رحمه الله تعالى قال: اجتمع ثلاثة من عباد بني إسرائيل فقالوا: تعالوا حتى يذكر كل إنسان منا أعظم ذنب عمله.
فقال أحدهم: أمَّا أنا فلا أذكر من ذنب أعظم من أني كنت مع صاحب لي، فعرضت لنا شجرة، فخرجت عليه ففزع مني، فقال: الله بيني وبينك.
وقال أحدهم: إنا معاشرَ بني إسرائيل إذا أصاب أحدنا بول قطعه، فأصاب جسدي بول فقطعته، فلم أبالغ في قطعه ولم أدعه، فهذا أعظم ذنب عملته.
وقال أحدهم: كانت لي والدة فدعتني من قبلي شمال الريح، فأجبتها فلم تسمع، فجاءتني مغضبة، فجعلت ترميني بالحجارة، فأخذت عصا وجئت لأقعد بين يديها لتضربني به حتى ترضى، ففزعت مني، فأصابت وجهها شجرة فشجَّتها، فهذا أعظم ذنب عملته (1).
وعن عون بن عبد الله رحمه الله تعالى قال: كان أَخَوان في بني إسرائيل فقال أحدهما لصاحبه: ما أخوفُ عمل عملته عندك؟
فقال: ما عملت عملًا أخوف عندي من أني مررت بين قراحي سنبل، فأخذت من أحدهما سنبلة، ثم ندمت فأردت أن أردها في القراح الذي أخذتها منه، فلم أدرِ من أي القراحين هو، فطرحتها في أحدهما،
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الورع"(ص: 97).
فأخاف أن أكون طرحتها في غير الذي أخذتها منه.
فما أخوف عمل عملته عندك؟
قال: إن أخوف عمل عندي أني إذا قمت في الصلاة أخاف أن أكون أحمل على إحدى رجلي فوق ما أحمل على الأخرى.
وأبوهما يسمع، فقال: اللهم إن كانا صادقين فاقبضهما قبل أن تفتنهما، فماتا (1).
وروى أبو نعيم عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوْحَى اللهُ تَعالَى إلَى نبِيٍّ مِنْ أنبِياءِ بَني إِسْرائِيلَ: قُلْ لأَهْلِ طَاعَتِي مِنْ أُمَّتِكَ أَنْ لا يَتَّكِلُوا عَلَى أَعْمالِهِمْ؛ فَإِنِّي لا أقَاص عَبْدًا الْحِسابَ يَوْمَ القِيامَةِ أَشاءُ أَنْ أُعَذِّبَهُ إِلَّا عَذَّبْتُهُ، وَقُلْ لأَهْلِ مَعْصِيتَي مِنْ أُمَّتِكَ لا يُلْقُوا بأَيْدِيْهِمْ؛ فَإِنيِّ أَغْفِرُ الذَّنْبَ العَظِيْمَ وَلا أُبالِي، وإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا مَدِيْنَةٍ، وَلا أَهْلِ الأَرْضِ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّتِهِ وَلا امْرَأَةٍ يَكُونُ لِي عَلَى ما أُحِبُّ إِلَّا كُنْتُ لَهُ عَلَى ما يُحبُّ، وَإِنَّه لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مَدِيْنَةٍ وَلا أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصّةٍ، [ولا امرأةٍ يكونُ لي عَلَى ما أُحِبُّ إلا كنتُ لَهُ عَلَى ما يُحِبُّ](2) ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَمَّا أُحِبُّ إلَى مَا كَرِهْتُ إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إلَى ما يَكْرَهُ، وَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا مَدِيْنَةٍ، وَلا أَهْلِ أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّةٍ
(1) رواه ابن أبي الدنيا في "الورع"(ص: 98).
(2)
في "أ": "وَلا يَكُونُ لِي عَلَى ما أُحِبُّ
…
".
وَلا امْرَأةٍ يكُونُ لِي عَلَى مَا أَكرَهُ إِلَّا كُنْتُ لَهُ عَلَى ما يَكْرَهُ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَلا أَرْضٍ، وَلا رَجُلٍ بِخاصَّةٍ وَلا امْرَأَةٍ يكُونُ لِي عَلَى مَا أَكْرَهُ فَأكُوْنُ لَهُ عَلَى ما أَكْرَهُ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ عَمَّا أَكْرَهُ إِلَّا تَحَوَّلْتُ لَهُ عَمَّا يَكْرَهُ إلَى مَا يُحِبُّ، لَيْسَ مِنِّي مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، وَلا مَنْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، إِنَّما أَنا وَخَلْقِي، وَكُلُّ خَلْقِي لِي" (1).
وعن وهب قال: مرَّ عيسى بن مريم عليهما السلام بقرية قد مات أهلها، وإنسها وجنُّها، وهوامُها وأنعامها وطيرها، فقام عيسى عليه السلام ينظر إليها ساعة، ثم أقبل على أصحابه فقال: مات هؤلاء بعذاب الله عز وجل، ولو ماتوا بغير ذلك ماتوا متفرقين.
قال: ثم ناداهم عيسى عليه السلام: يا أهل القرية!
قال: فأجابه مجيب: لبيك يا روح الله.
قال: ما كانت جنايتكم؟
قالوا: عبادة الطاغوت وحب الدنيا.
قال: وما كانت عبادتكم للطاغوت؟
قال: الطاعة لأهل معاصي الله عز وجل.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 195)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط" (4844). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 307): وفيه عيسى بن مسلم الطهوي، قال أبو زرعة: لين، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه وبقية رجاله ثقات إن شاء الله.
قال: فما كان حبكم للدنيا؟
قال: كحب الصبي لأمه؛ كنا إذا أقبلت فَرِحْنا، وإذا أدبرت حَزِنَّا مع أمل بعيد، وإدبار عن طاعة الله، وإقبال في سخط الله.
قال: كيف كان شأنكم؟
قال: بتنا ليلة في عافية، وأصبحنا في الهاوية.
قال عيسى: وما الهاوية؟
قال: سجِّين.
قال: وما سجِّين؟
قال: جمرة من نار مثل طباق الدنيا كلها، دفنت أرواحنا فيها.
قال: فما حال أصحابك لا يتكلمون؟
قال: لا يستطيعون أن يتكلموا.
قال عيسى: وكيف ذاك؟
قال: ملجمون بلجام من نار.
قال: كيف كلمتني أنت من بينهم؟
قال: إني كنت فيهم ولم أكن على حالهم، فلما جاء البلاء عمَّني معهم، فأنا معلق بشعري في الهاوية لا أدري أكُرْدَس في النار أم أنجو.
فقال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم: لأكل خبز الشعير وشرب ماء القراح، والنوم على المزابل مع الكلاب لكثيرٌ مع عافية الدنيا والآخرة (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 62).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] قال: كان رجل من بني إسرائيل فاتحاً أن فتح الله له مالًا، فمات، فورثه ابن له تافه -أي: فاسد- وكان يعمل في مال أبيه بمعاصي الله، فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعَذَلوه ولاموه، فَضَجِر الفتى، فباع عقاره بصامت، ثم رحل فأتى عيناً ثجَّاجة، فسرح فيها ماله، وابتنى قصرًا، فبينما هو ذات يوم جالس إذ شملت عليه الريح بامرأة من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحاً، فقالت: من أنت يا عبد الله؟
فقال: أنا امرؤ من بني إسرائيل.
قالت: فلك هذا القصر وهذا المال؟
قال: نعم.
قالت: فهل لك من زوجة؟
قال: لا.
قالت: فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك؟
قال: قد كان ذلك، فهل لك من بعل؟
قالت: لا.
قال: فهل لك أن أتزوجك؟
قالت: إني امرأة منك على مسيرة ميل، فإذا كان غدًا فتزود زاد يوم وائتني، وإن رأيت في طريقك هولًا فلا يهولنَّك.
فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق، فانتهى إلى قصر، فقر 5 ع
رتاجه، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهًا وأطيبهم أرَجًا، فقال: من أنت يا عبد الله؟
قال: أنا الإسرائيلي.
قال: فما حاجتك؟
قال: دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها.
قال: صدقت، فهل رأيت في طريقك هولًا؟
قال: نعم، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس علي لهالني ذلك؛ أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها، ففزعت، فوثبت فإذا أنا من ورائها، وإذا جراؤها ينبحن على صدرها.
قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ يقاعد الغلام المشيخة فيغلبهم على مجلسهم، ويدثر حديثهم.
ثمَّ أقبلْتُ حتى إذا انفرج بي السبيل، وإذا بمئة أعنز جفل، وإذا فيها جدي يمصها، فإذا أتى عليها فظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة.
قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ ملك يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظنَّ أنه لم يترك شيئًا فتح فاه يلتمس الزيادة.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل، فإذا أنا بشجر، فأعجبني غصن من شجرة، فأردت قطعه، فنادتني شجرة أخرى: يا عبد الله! مني فخذ، حتى ناداني الشجر جميعه: يا عبد الله! منا فخذ.
قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ تقل الرجال وتكثر النساء حتى إنَّ الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل قائم على عين يغرف لكل إنسان من الماء، فإذا تصدعوا عنه صب في جرته، فلم تعلق جرته من الماء بشيء.
قال: لست تدرك هذا، هذا يكون في آخر الزمان؛ القاضي يعلم الناس العلم، ثم يخالفهم إلى معاصي الله.
قال: ثم أقبلت حتى انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز، وإذا قوم أخذوا بقوائمها، وإذا رجل قد أخذ بقرونها، وإذا رجل قد أخذ بذنبَها، وإذا راكب قد ركبها، وإذا رجل يحلِبها.
قال: أما العنز فالدنيا، والذين أخذوا بقوائمها فهم يتساقطون من عيشها، وأمَّا الذي أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقاً، وأمَّا الذي قد أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه، وأما الذي ركبها فقد تركها، وأما الذي يحتلبها فبخ بخ! ذهب ذاك بها.
قال: ثم أقبلت حتى انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل يمتح على قليب، كلما أخرج دلوه صبه في الحوض، فانساب الماء راجعاً إلى القليب.
قال: هذا رجل ردَّ اللهُ عليه صالح عمله.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل يبدر بدرًا
فيستحصد، فإذا حنطة طيبة.
قال: هذا رجل تقبل منه صالح عمله وأزكاه له.
قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه، قال: يا عبد الله! ادن مني، فخذ بيدي وأقعدني، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله، فأخذت بيده، فقام يسعى حتى ما أراه.
فقال له الفتى: هذا عمرك نَفِدَ، وأنا ملك الموت، وأنا المرأة التي أتتك؛ أمرني الله بقبض روحك في هذا المكان، ثم أصيرك إلى جهنم.
قال ابن عباس: ففيه نزلت هذه الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54](1).
وروى أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ في بَنِي إِسْرائِيْلَ مَلكٌ، وَكانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ مُسْلِماً، وَكَانَ إِذا أَكَلَ طَرَحَ ثَفالَةَ الطَّعامِ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَكَانَ عابِدٌ يَأوِي إلَى مَزْبَلَتِهِ فَإِنْ وَجَدَ كِسْرَة أَكَلَها، وَإِنْ وَجَدَ بَقْلَة أَكَلَها، وَإِنْ وَجَدَ عِرْقاً تَعَرَّقَهُ، فَمَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، فَأَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ بِذُنُوْبِهِ، وَخَرَجَ العابِدُ إلَى الصَّحْراءِ، فأكَلَ مِنْ بَقْلِها، وَشَرِبَ مِنْ مَائِها، فَقَبَضَهُ اللهُّ تَعالَى، فَقالَ لَهُ: هَلْ عِنْدَكَ لأَحَدٍ مَعْرُوْفٌ فَأُكافِئَهُ عَلَيْهِ؟
قَالَ: يا رَبِّ لا.
قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ كانَ مَعاشُكَ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ-؟
(1) عزاه ابن كثير في "التفسير"(3/ 546) لابن أبي حاتم، وقال: هذا أثر غريب، وفي صحته نظر.
قَالَ: كُنْتُ آوِي إلَى مَزْبَلَةِ مَلِكٍ فَإذَا وَجَدْتُ كِسْرَةَ أَكَلْتُها، وَإِنْ وَجَدْتُ بَقْلَةَ أَكَلْتُها، وَإِنْ وَجَدْتُ عِرْقاً تَعَرَّقْتُهُ، فَقَبَضْتَهُ، فَخَرَجْتُ إلَى الصَّحْراءِ مُقْتَصِرًا عَلَى مائِها وَنبَاتِهَا.
فَقالَ: هَلْ تَعْرِفُهُ؟
فَأَمَرَ بِهِ فأُخْرِجَ مِنَ النارِ جَمْرَةَ يَنْتَفِضُ قاعده.
فَقالَ: نعمْ يا رَبِّ! هَذا الّذِي كُنْتُ آكُلُ مِنْ مَزْبَلَتِهِ.
قَالَ: يُقالُ لَهُ: خُذْ بِيَدِهِ فأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ لِمَعْرُوْفِ كانَ مِنْهُ إِلَيْكَ لَمْ يَعْرِفْهُ، أَما لَوْ عَرَفَهُ ما عَذبْتُه" (1).
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن يزيد بن ميسرة رحمه الله تعالى قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً وولداً، فادعى ما قيل على نفسه، وهو في أهله قد جمع فقال: أنعِمي سنين، فأتاه ملك الموت عليه السلام، فقرع الباب، فخرجوا إليه وهو متمثل مسكيناً، فقال لهم: ادعوا لي صاحب الدار.
فقالوا: نخرج سيدنا إلى مثلك؟
فتركوه، ثم مكث قليلًا، ثم عاد فقرع باب الدار، وصنع مثل ذلك، فقال: أخبروه أني ملك الموت.
فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له بالكلام.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 252) وقال: غريب، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(60/ 320).
قالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟
قال: لا.
فدخل عليه فقال له: قم فأوص ما كنت موصيًا؛ فإني قابض نفسك قبل أن أخرج.
فصاح أهله وبكوا، ثم قال: افتحوا له الصناديق والتوابيت، وافتحوا أوعية المال، وافتحوا أوعية الذهب والفضة، ففتحوها جميعًا، وأقبل إلى المال فلعنه وسبه، ويقول: لُعنت من مال؛ أنت الذي أَنسيتني ربي تبارك وتعالى، وأغفلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي.
فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتُكَ؟ ألم يُر عليك من أثري وكنت تحضر سُدد الملوك فتدخل، وتحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، وتخطب عباده الصالحون فلا ينكحون؟ ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك، فأنت ألوم فيه مني، إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب؛ فمنطلق ببِرِّ، ومنطلق بإثم.
فهكذا يقول المال؛ فاحذروا (1)!
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تكلم
(1) انظر: "التبصرة" لابن الجوزي (1/ 411)، و"عدة الصابرين" لابن القيم (ص: 222).
ملك من الملوك بكلمة -يعني: وهو جالس على سريره- فمسخ، فما يدرون أي شيء مسخ أذباباً، أم غيره؛ إلا أنه ذهب فلم يُرَ (1).
وروى الدينوري في "المجالسة" عن أبي عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل أو ملك فقال: ما أرى أحدًا أعز مني.
قال: فسلط الله عليه أضعف خلقه -يعني: البعوضة- فدخلت منخره، فجعل يقول: اضربوا ها هنا، فضربوا رأسه بالقوس حتى هشَّموا رأسه (2).
وروى الإمام أحمد عن مالك بن دينار رحمه الله تعالى قال: نزل عابد على عابد، وللمنزول عليه ابنة، فقال لها: أكرمي أخي هذا، قومي عليه، ألطفيه.
قال: فلم يزل به الشيطان حتى وقع بها، فولدت له غلاماً، فهابته أن تقذفه به.
فقال لأبي الجارية: هب لي هذا الصبي أتبناه.
قال: هو لك.
قال: فأخذه، فوضعه على عاتقه، وجعل يطوف به في ملأ عباد بني إسرائيل، ويقول: يا إخوتاه! أحذركم مثل الذي لقيت، هذه خطيئتي أحملها على عنقي.
(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم البغي"(ص: 45)، والدينوري في "المجالسة وجواهر العلم" (ص: 221).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 285).
وروى أبو نعيم عن بكر بن عبد الله المزني رحمه الله تعالى قال: كان فيمن قبلكم ملك، وكان له حاجب يقربه وُيدنيه، وكان هذا الحاجب يقول: أيها الملك! أحسن إلى المحسنين، ودع المسيء تكفيه إساءتُه.
قال: فحسده رجل على قربه من الملك، فسعى به، فقال: أيها الملك! هو ذا يخبر الناس أنك أبخر.
قال: وكيف لي أن أعلم ذلك؟
قال: إذا دخل تدنيه لتكلمه؛ فإنَّه يقبض على فيه.
قال: فذهب الساعي، فدعا الحاجب إلى دعوته، واتخذ مرقة، وأكثر فيها الثوم، فلما أن كان من الغد دخل الحاجب، فأدناه ليكلمه عن شيء، فقبض على فيه، قال: تَنَحَّ، فدعا بالدواة وكتب له كتابًا وختمه، وقال: اذهب بها إلى فلان، وكانت جائزته مئة ألف دينار، فلما أن خرج استقبله الساعي فقال: أي شيء هذا؟
قال: قد دفع إلي الملك، فاستوهبه فوهبه له، فأخذ الكتاب ومر، فلما أن قرؤوا الكتاب دعوا بالذباحين، فقال: اتقوا الله يا قوم؛ فإن هذا غلط وقع علي، وعاودوا الملك.
فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودة الملك.
وكان في الكتاب: إذا أتاكم حامل كتابي هذا فاذبحوه، واسلخوا جلده، واحشوه بالتبن، ووجهوه إلي.
فذبحوه، وسلخوا جلده، ووجهوا به، فلما أن رأى الملك تعجب، فقال للحاجب: تعال وحدثني واصدقني: لم إذ أدنيتك قبضت على أنفك؟
فقال: أيها الملك! إن هذا دعاني إلى دعوته، واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم، فقال: ارجع إلى مكانك، وقل ما كنت تقول، ووصله بمال عظيم (1).
وتقدم هذا الأثر بنحو ذلك من رواية وهب.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن خالد بن ثابت الربعي رحمه الله تعالى قال: بلغني أنَّه كان في بني إسرائيل رجل شاب قد قرأ الكتاب، وعلم علمًا، وكان مغموزًا فيهم، وأنه طلب بعلمه وقراءته الشرف والمال، وأنه ابتاع بدعًا أدرك الشرف والمال في الدنيا، ولبث كذلك حتى بلغ سنًا، وأنه بينما هو نائم ليلة على فراشه إذ تفكر فقال: هب هؤلاء الناس لا يعلمون ما ابتدعت، أليس الله قد علم ما ابتدعت وقد اقترب الأجل؟ فلو أن تبت.
فبلغ من اجتهاده في التوبة أن عمد فخرق ترقوته، وجعل فيها سلسلة، ثمَّ أوثقها إلى آسية من أواسي المسجد، قال: لا أبرح مكاني هذا حتى ينزل الله فيَّ توبة، أو أموت موت الدنيا.
قال: وكان لا يستنكر الوحي في بني إسرائيل.
فأوحى الله تعالى إلى نبي من أنبيائهم: إنك لو كنت أصبت ذنبًا بيني وبينك لتبت عليك بالغًا ما بلغ، كيف من أضللت من عبادي فماتوا، فأدخلتهم جهنم، فلا أتوب عليك (2).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 228).
(2)
تقدم تخريجه.
قال عوف -وهو الراوي عن خالد-: حسبته قال: اسمه برسيا. أخرجه ابن أبي شيبة.
وروى الإمام أحمد عن سمي بن مغيث رحمه الله تعالى قال: كان رجل ممن كان قبلكم يعمل بالمعاصي، فبينما هو ذات يوم يسير إذ تفكر فيما سلف منه، فقال: غفرانك، فأدركه الموت على تلك الحال؛ قال: فغُفر له (1).
قلتُ: لعل معاصي هذا كانت فيما بينه وبين الله تعالى خاليةً عن ظلم العباد وإضلالهم.
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب: أن عابدًا من بني إسرائيل قام يصلي في الشمس حتى تغير لونه واسوَّد، فمر به إنسان فقال: كأن هذا حرق بالنار.
فقال: إن هذا من خبرها، فكيف بمعاينتها (2).
وعن مالك بن أنس رحمه الله تعالى قال: حدِّثتُ أنَّ نفرًا من بني إسرائيل كانوا يصومون النهار، وإذا كان الليل ووضع الطعام جعلوا ذلك نوابت بينهم، فيقول رجل منهم: لا تأكلوا كثيرًا، فتشربوا كثيرًا، فترقدوا كثيرًا (3).
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (4/ 58).
(2)
انظر: "التخويف من النار" لابن الجوزي (ص: 34).
(3)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 104).
وعن وهب رحمه الله تعالى قال: إن عابدًا من بني إسرائيل كان في صومعته يتعبد فإذا نفر من الغواة قالوا: لو أنَّا استنزلناه بشيء، فذهبوا إلى امرأة بَغِيٍّ فقالوا لها: تعرَّضي له.
قال: فجاءته في ليلة مظلمة مَطِيرة فقالت: يا عبد الله! آوني إليك -وهو قائم يصلي، ومصباحه ثاقب- فلم يلتفت إليها.
فقالت: يا عبد الله! الظلمة والغيث! آوني إليك.
فلم تزل به حتى أدخلها إليه، فاضطجعت وهو قائم يصلي، فجعلت تتقلب وتريه محاسن خلقها حتى دعته نفسه إليها، فقال: لا والله حتى أنظر كيف صبرك على النار.
فدنا من المصباح، فرفع أصبعًا من أصابعه فيه حتى احترقت، ثمَّ رجع إلى مصلاه، فدعته نفسه أيضًا، فلم تزل تدعوه وهو يعود إلى المصباح حتى احترقت أصابعه وهي تنظر إليه، فصعقت، فماتت.
فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما صنعت فإذا بها ميتة، فقالوا: يا عدو الله! بامرأتي وقعت عليها ثمَّ قتلتها؟
قال: فذهبوا به إلى ملكهم، فشهدوا عليه، فأمر بقتله.
فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين.
قال: فصلى ثمَّ دعا، فقال: أي رب! إني أعلم أنك لم تكن بمؤاخذي بما لم أفعل، ولكن أسألك أن لا أكون عارًا على القراء بعدي.
قال: فرد الله عليها نفسها، فقالت: انظروا إلى يده، ثمَّ عادت ميتة (1).
وعنه: أن سائحًا ورديئًا له كان يأتيهما طعامهما في كل ثلاثة أيام مرة، فإذا هما لم يأتهما طعام إلا لأحدهما، فقال الكبير لرديئه: لقد أحدث أحدنا حدثًا منع رزقه، فتذكر ما صنعت.
فقال له الرديء: ما صنعت شيئًا.
ثمَّ ذكر الرديء، فقال: بلى؛ قد جاءنا مسكين سائل إلى الباب، فأخذت الباب في وجهه.
فقال الكبير: من ثمَّ أتينا.
فاستغفرا الله عز وجل، فجاءهما رزقهما بعدُ كما كان يأتيهما (2).
وعنه قال: كان سائح ورديء له، قال السائح لرديئه: ادخل القرية فاشتر لي كفنًا؛ فإني الساعة؛ يعني: أكون ميتًا، وعجِّل.
فدخل الرديء، فإذا بعظيم من عظماء القرية قد توفي، فاحتشد الناس في إقباره، فأغلقوا حوانيتهم، فلم يقدر الرديء على ما يشتري حتى رجع الناس، فاشترى كفنًا وحِناطًا، فرجع إلى صاحبه فإذا به قد توفي وأكل السبع وجهه، فجعل يتلهَّف ويتحسَّر.
قال: أما فلان الجبار فكفِّق وحُنِّط، وأما فلان فأُكل.
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 101).
(2)
رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 102).
فقيل له: أما فلان الجبار فإنَّه لم يكن له إلا حسنة واحدة، فأحبَّ الله أن يخرجه من الدنيا وليس له في الآخرة نصيب، وأمَّا فلان السائح فإنَّه كان قد عمل عملًا فأخرجه الله عز وجل من الدنيا وهو لا يجد ألم ذلك (1).
وروى الديلمي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ مُوسَى النَّبِيُّ عليه السلام: يا رَبِّ! إِنَّكَ تُغْلِقُ عَلَى عَبْدِكَ الْمُؤْمِنِ الدُّنْيَا، فَفَتَحَ اللهُ لَهُ بَابًا مِنْ أَبْوابِ الْجَنَّةِ، فَقالَ: هَذا ما أَعْدَدْتُ لَهُ، قَالَ: وَعِزَّتِكَ وَجَلالِكَ وارْتفاعِ مَكَانِكَ لَوْ كَانَ أَقْطَعَ اليَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ يُسْحَبُ عَلَى وَجْهِهِ مُنْذُ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ كانَ هَذا مَصِيْرُهُ لَكَأَنْ لَمْ يَرَ بَأسًا قَطُّ.
قَالَ: يا رَبِّ! إِنَّك تُعْطِي الكافِرَ الدُّنْيَا فَفَتَحَ لَهُ بَابًا إلَى النَّارِ، فَقَالَ: هَذا ما أَعْدَدْتُ لَهُ، فَقَالَ: يا رَبِّ! وَعِزَّتك لَوْ أَعْطَيْتَهُ الدُّنْيا وَمَا فِيَها لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مُنْذُ خَلَقْتَهُ إلَى يَوْمِ القِيامَةِ، ثُمَّ كانَ هَذا مَصِيْرُهُ كأَنْ لَمْ يَرَ خَيْرًا قَطُّ" (2).
وروى أبو نعيم عن وهب قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مئتي سنة ثمَّ مات، فأخذوه فألقوه على مَزبلة، فأوحى الله إلى موسى
(1) رواه الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 102).
(2)
ورواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 81). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 267): رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة ودراج، وقد وثِّقا على ضعف فيهما.
عليه السلام أن اخرج فصلِّ عليه.
قال: يا رب! بنو إسرائيل شهدوا أنَّه عصاك مئتي سنة.
فأوحى الله عز وجل: هكذا كان، إلا أنَّه كان كلما نشر التوراة، ونظر إلى اسم محمَّد وضعه على عينيه وصلَّى، فشكرت له ذلك، وغفرت له ذنوبه، ووهبته سبعين حوراء (1).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 42).