الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنه ما كانت تصنعه الأحبار والرهبان من جمع الزكاة ليقسموها، ثمَّ الاستئثار بها، وهذا ليس في طمع الطامعين أقبح منه.
ومنه استئثار ملوك هذا الزمان، وأجناده، وأكابره، ووجوه أهله أنهم يأخذون أموال الناس وأموال الأوقاف فلا يردُّون ما يجب رده، ولا يصرفون ما يجب صرفه على مستحقيه، بل يتوسعون به، ويتبسطون فيه كما فعل الَّذين من قبلهم فذاقوا وبال أمرهم، فصدق الحديث:"لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ النَّعْلَ"(1)؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
160 - ومن أعمال بني إسرائيل: الحيلة في أكل ما حُرِّم عليهم
.
والقرية المذكورة هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها: أيلة؛ كما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم
(1) تقدم تخريجه.
عن ابن عباس، وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير (1).
وقال ابن شهاب: هي طبرية (2).
وابن زيد: هي قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعيوثا (3).
أخرجهما ابن أبي حاتم.
وروى عبد الرَّزَّاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم بإسناد صحيح، وصححه البيهقي في "السنن" عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره، فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك؟
قال: هل تعرف أيلة؟
قلت: وما أيلة؟
قال: قرية بها ناس من اليهود، فحرم الله عليهم الحيتان يوم السبت.
وفي رواية: ما يبكيك يا ابن عباس؟
فقال: هؤلاء الورقات؛ فإذا في سورة الأعراف؛ قال: تعرف أيلة؟
قلت: نعم.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(9/ 90)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1597) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (3/ 588).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1597).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1598).
قال: فإنَّه كان بها حي من اليهود سيقت إليهم الحيتان يوم السبت، ثمَّ غاصت حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة، كانت تأتيهم يوم السبت شُرَّعًا بيضًا سِمَانًا كأنها الماخض.
وفي رواية الحاكم: وكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرَّعًا بيضًا سمانًا كأمثال المخاض، فإذا كان في غير يوم السبت لم يجدوها، ولم يدركوها إلا في مشقة ومؤنة شديدة، فقال بعضهم لبعض، أو من قال ذلك منهم: لعلها لو أخذناها يوم السبت وأكلناها في غير يوم السبت.
ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا وشووا، فوجد جيرانهم ريح الشواء، فقالوا: ما نرى أصحاب بني فلان ليصيبوا بشيء.
فأخذها آخرون حتى فشى ذلك فيهم، وكثر فافترقوا ثلاثًا: فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164].
فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف، أو قذف، أو ببعض ما عنده من العذاب.
والله لا نبايتكم في مكان وأنتم فيه، فخرجوا من السور، فغدو عليه من الغد، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد، فأتوا سببًا فأسندوه إلى السور، ثمَّ رقى راق منهم إلى السور، فقال: يا عباد الله! قردة والله لها أذناب تعاوى -ثلاث مرات-.
ثمَّ نزل من السور، ففتح السور، فدخل الناس عليهم، فعرف القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فأتى القرد إلى
نسيبه وقريبه من الإنس، فيحك به ويلصق به، ويقول الإنسان: أنت فلان؟ فيشير برأسه - أي: نعم - ويبكي.
فيقول لهم الإنس: أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف، أو مسخ، أو ببعض ما عنده من العذاب.
قال ابن عباس: فاسمع الله تعالى يقول: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، فلا أدري ما فعلت الفرقة الثانية.
قال ابن عباس: وكم رأينا من منكر فلم ننه عنه.
قال عكرمة: ما ترى جعلني الله فداك إذ كرهوا حين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164]؟
فأعجبه قولي ذلك، وأمر لي ببردين غليظين فكسانيهما (1).
وروى عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري أنجا الذين قالوا: لم تعظون قوماً أم لا.
قال: فما زلت أبصره حتى عرف أنهم نجوا، فكساني حلة (2).
قلت: وفيه ينبغي لمن ظهرت منه فائدة في العلم وحذاقة في الفهم من الطلبة ونحوهم أن يرغبوا بجائزة من خلعة ونحوها، وقد نقل ذلك كثير من العلماء.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(9/ 94)، والحاكم في "المستدرك"(3254)، وكذا البيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 92).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(9/ 94).
وممن كان يرغب الطلبة بالجوائز والهبات والدي رحمه الله تعالى.
وقد روى ابن بطة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَرْتَكِبُوْا مَا ارْتَكَبَتِ اليَهُوْدُ فَتَسْتَحِلُّوْا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنىَ الْحِيَلِ"(1).
وأشار إلى تحيلهم في صيد الأسماك بإمساكها يوم السبت وأكلها في غير يوم السبت، وكان طريقتهم في إمساكها أنهم كانوا يحفرون حفائر في جانب البحر، ويخرقون بينها وبين الماء، فتقع الأسماك يوم السبت في الحفائر، فيسدون الخروق بعد أن تقع في الحفائر، فتبقى فيها إلى الأحد، فيأخذونها.
وقيل في الحيلة غير ذلك.
وكان أول ذلك ما رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن عباس في رواية أخرى: أن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخزمه بخيط، ثم ضرب له وتداً في الساحل، وربطه وتركه في الماء، فلما كان الغد جاء فأخذه، فأكله سراً، ففعلوا ذلك وهم ينظرون لا يتناهون إلا بقية منهم، فنهوهم حتى إذا ظهر ذلك في الأسواق علانية قالت طائفة منهم للذين ينهونهم: لم تعظون قوماً، الحديث.
وقال فيه: إن الله تعالى إنما فرض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى يوم السبت، فعظموه وتركوا
(1) رواه ابن بطة في "إبطال الحيل"(ص: 47). قال ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"(3/ 123): وهذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي.
ما أُمروا به، فلما ابتدعوا السبت ابتلوا به، فحرمت عليهم الحيتان (1).
وفيه إشارة إلى أن البدعة والعناد بمخالفة الأمر توجب العقوبة والابتلاء، وإنما النجاة والراحة والمثوبة في الاتباع والعمل بالسنة، ولذلك بورك لهذه الأمة في يوم الجمعة، فما منهم إلا من يرتاح له، ويأنس به، وتعود بركته عليهم من الأسبوع إلى الأسبوع، واليهود تركوه واختاروا السبت، فابتلوا وشق عليهم أجره حتى قال ابن عباس: أخذ موسى عليه السلام رجلاً يحمل حطباً يوم السبت، وكان موسى يسبت، فصلبه. رواه ابن أبي شيبة.
وقال أيضاً: احتطب رجل في السبت، وكان داود عليه السلام يسبت، فصلبه. رواه أبو الشيخ (2).
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66].
قال ابن عباس: وهذا تحذير لهم من المعصية؛ يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت إذ عصوني.
قال: مسخهم الله قردة بمعصيتهم، ولم يَعِشْ مسخٌ قطُّ ثلاثةَ أيام، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينسل. رواه ابن جرير (3).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(1/ 330).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 591).
(3)
انظر "تفسير الطبري"(1/ 329).
ونص ابن عباس أنهم مسخوا حقيقة.
وروى ابن أبي حاتم عنه قال: صار شباب القوم قردة، والمشيخة صاروا خنازير (1).
وكذلك قال قتادة، وغيره (2).
وقيل: المسخ معنوي، وهو خلاف ظاهر نص القرآن.
وروى ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة حقيقة، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لهم كقوله:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5](3).
والصحيح المشهور الأول، وهو أبلغ في الموعظة.
وقد قال الله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66]؛ أي: من القرى، أو من ذنوبهم التي عملوها قبل وبعد.
وكلاهما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس (4).
قال: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66]، الذين من بعدهم إلى يوم القيامة (5).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(1/ 133)، وكذا الطبري في "التفسير"(9/ 101).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(9/ 101).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(1/ 133) عن مجاهد.
(4)
انظر "تفسير الطبري"(1/ 334).
(5)
رواه الطبري في "التفسير"(1/ 336).