الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى الإِمام أحمد، وأبو القاسم البغوي عن السائب بن أبي السائب عبد الله المخزومي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا سائبُ انْظُرْ أَخْلاقَكَ الَّتِي كُنْتَ تَصنَعُها في الْجاهِلِيَّةِ فَاجْعَلْها في الإِسْلامِ؛ أَقْرِ الضَّيْفَ، وَأَكْرِمِ الْيَتِيمَ، وَأَحْسِنْ إِلَى جارِكَ"(1).
والمعنى: أخلاقك التي كنت تصنعها مستحسناً لها، أو كنت راضياً بها، يعني: الأخلاق الكريمة التي ترضاها النفوس الطيبة.
فأما الأخلاق السيئة الناشئة عن الجهل فهي التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث السابق: "أَلا إِن كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيِّةِ تَحْتَ قَدَميَّ مَوْضُوعٌ"(2).
وهي الأمور التي سُمُّوا بها جاهلية، وأهل جاهلية.
1 - فمن قبائح الجاهلية -وهو أقبحها وأفحشها-: الكفر، وعبادة الأصنام، واعتقاد أنها تنفع وتشفع، وتقرب إلى الله زُلفى
.
والقرآن العظيم متوافر بذم قريش والمشركين على عبادة الأوثان، والإغلاظ في وعيدهم، وبيان شدة عذابهم.
قال الله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64].
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(3/ 425)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 190): رواه أبو داود باختصار، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(2)
تقدم تخريجه.
وقال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] الآية.
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3].
وروى الأزرقي عن ابن إسحاق: أن بني إسماعيل وجُرهم من ساكني مكة ضاقت عليهم مكة، فتفسحوا في البلاد والتمسوا المعاش، ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم إلا احتملوا معهم من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة وبالكعبة، حيثما رحلوا وضعوه، وطافوا به كالطواف بالكعبة، حتى سبح ذلك بهم إلى أنهم كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة، وأعجبهم من حجارة الحرم خاصة، حتى خلفت الخلوف من بعد الخلوف، ونسوا ما كانوا عليه، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم من الضلالات، وأنتجوا ما كان يعبد قوم نوح منها، فلما رَثَّ ما كان بقي فيهم من ذكرها.
قال: وكان أول من غيَّر دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة
والسلام، ونصب الأوثان، وسيَّب السوائب، وبَحَر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي: عمرو بنُ لحي (1).
ثم الأصنام التي كانت تعبدها العرب كثيرة جداً، حتى روى الواقدي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: لما كان يوم الفتح: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَتْرُكَنَّ في بَيْتِهِ صَنَمًا إِلَاّ كَسَرَهُ وَحَرَّقَهُ؛ وَثَمَنُهُ حَرامٌ".
قال جبير رضي الله تعالى عنه: وقد كنت قبل ذلك أرى الأصنام يطاف بها فيشتريها أهل بدر، فيخرجون بها إلى بيوتهم، وما من رجل من قريش إلا وفي بيته صنم؛ إذا دخل مسحه، وإذا خرج مسحه تبركاً به (2).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زماناً من الدهر في الجاهلية، فإذا وجد حجراً أحسن منه رمى به وعَبَدَ الآخر (3).
من مشاهير الأصنام التي كانوا يعبدونها: هُبل، وإساف، ونائلة، واللَاّت، والعُزَّى، ومَناة، والخلصة، ونَهيك، ومُطعم الطير، ووُدّ، وسُواع، وَيغوث، وَيعوق، ونسر.
(1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 116).
(2)
انظر: "المغازي" للواقدي (2/ 290).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(8/ 2699).
وهذه الأصنام الخمسة الأخيرة أقدمها، بل هي أول ما عبد من الأصنام لأنها أصنام قوم نوح التي عبدوها، ثم دفنت في الأرض حتى عبدها جماعة من العرب كما تقدم ذكرها وأول من وضعها ومن يعبدها من العرب في: التشبه بالشيطان، والتشبه بقوم نوح.
وأما هُبل: فقال ابن إسحاق: إن البئر التي كانت في جوف الكعبة كانت على يمين من دخلها، وكان عمقها ثلاثة أذرع، يقال: إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حفراها ليكون فيها من يهدى للكعبة، فلم تزل كذلك حتى كان عمرو بن لحي، فقدم بصنم يقال له: هبل من هيت من أرض الجزيرة، وكان هبل من أعظم أصنام قريش عندها، فنصبه على البئر من بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، وكانت القداح التي يستقسمون بها عند هبل.
قال ابن إسحاق: وكان هبل من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمين مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يداً من ذهب (1).
وأما إساف ونائلة: فقال ابن إسحاق: لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة ففجر بها -ويقال: إنما قَبَّلها فيها- فمسخا حجرين؛ اسم الرجل: إساف بن بغا، واسم المرأة: نائلة بنت رمه، فأخرجا من الكعبة، فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة،
(1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 117).
وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس، ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا لما يرون من الحالة الذي صاروا إليها.
فلم يزل الأمر يدرُس ويتقادم حتى صار المسخان يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة، ثم صارا وثنين يعبدان، فلما كان عمرو ابن لحي أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما.
وقال للناس: من كان قبلكم كان يعبدهما.
وكانا كذلك حتى كان قصي بن كلاب، وصارت إليه الحجابة وأمرُ الكعبة، فحوَّلهما من الصفا والمروة، فجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم (1).
ويقال: جعلهما جميعًا في موضع زمزم، وكان ينحر عندهما، وكان أهل الجاهلية يقرون بإساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكان الطائف بالبيت يبدأ بإساف ويستلمه، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، حتى كان يوم الفتح فكسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كسر من الأصنام (2).
وقال صاحب "القاموس": إساف -ككِتاب وسَحاب- وضعها عمرو بن لحي على الصفا، ونائلة على المروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة، أو هما إساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل، فجرا في
(1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 119).
(2)
انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 120).
الكعبة، فمسخهما الله تعالى حجرين، فعبدتهما قريش (1).
واقتصر في "الصحاح" على الثاني، وقال: ثم عبدتهما قريش (2).
ولا أدري ما النكتة في عدول صاحب "القاموس" عن (ثم) إلى (الفاء) مع أن عبادة قريش لهما كان بعد عهد طويل، كما في كلام ابن إسحاق.
وأما اللات والعزى: فروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان اللَاّت رجلًا يَلُتُّ سويق الحاج (3).
وروى ابن أبي حاتم عنه قال: كان اللَاّت يَلُتُّ السويق على الحجر، فلا يشرب أحد منه إلا سَمِنَ، فعبدوه (4).
وروى الفاكهي عنه: أن اللَّات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، فعبدوها وبنوا عليها بيتًا (5).
وروى سعيد بن منصور، والفاكهي عن مجاهد قال: كان اللَاّت رجلًا في الجاهلية بالطائف، وكان له غنم، فكان يسلو من رِسلها -بالكسرة أي: من لبنها- ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1023)(مادة: أسف).
(2)
وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (9/ 6)(مادة: أسف).
(3)
رواه البخاري (4578).
(4)
وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 612)، و"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 653).
(5)
رواه الفاكهي في "أخبار مكة"(5/ 164).
منه حَيساً، ويطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه، وقالوا: اللَاّت، وكان يقرأ: اللَاّت -مشددة- (1).
وروى ابن المنذر عن ابن حر قال: كان رجل من ثقيف يَلُتُّ السويق بالزيت، فلما توفي جعلوا قبره وثناً، وزعم الناس أنه عامر بن الظَّرِب أحد [بني] عُدوان (2).
وروى الأزرقي: أن رجلًا ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فيَلُتُّ سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللَاّت، فمات، فلما فقده الناس قال لهم عمرو بن لحي الخزاعي: إن ربكم كان اللَاّت فدخل في جوف الصخرة.
قال: وكانت العُزَّى ثلاث شجرات سمرات بنخلة، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة، والحارث بن كعب، فقال لهم عمرو: إن ربكم يتصيف باللَاّت لبرد الطائف، ويشتي بالعُزَّى لحر تهامة، وكان في كل واحدة شيطان يعبد.
فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، بعث بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العُزَّى ليقطعها، فقطعها؛ وذكر الحديث (3).
(1) رواه الفاكهي في "أخبار مكة"(5/ 164)، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 653).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 653).
(3)
انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 126).
وروى النسائي عن [أبي] الطفيل رضي الله تعالى عنه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزَّى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"ارْجِعْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنع شَيْئًا".
فرجع خالد، فلما أبصرته السَّدَنَة أمعنوا في الحيل وهم يقولون:"يا عُزَّى! يا عُزَّى! "، فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:"تِلْكَ الْعُزى"(1).
وأما مَناةُ: فقال ابن إسحاق: إن عمرو بن لحي نصب مَناة على ساحل البحر مما يلي قديد، وهي التي كانت للأزد وغسان يحجونها ويعظمونها، فإذا طافوا بالبيت، وأفاضوا من عرفات، وفرغوا من مني، لم يحلقوا إلا عند مناة، وكانوا يهلون بها (2).
وقال محمَّد بن السائب الكلبي: كانت مَناة شجرة لهذيل، وكانت هذيل (3). رواهما الأزرقي.
وروى عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى: أن
(1) رواه النسائي في "السنن الكبرى"(11547)، وأبو يعلى في "المسند"(902).
(2)
ورواه الفاكهي في "أخبار مكة"(5/ 163).
(3)
كذا في "أ" و "ت".
اللَاّت كانت لأهل الطائف، والعُزَّى كانت لقريش ببطن نخلة، ومَناة كانت للأنصار بقديد (1).
وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن أبي صالح: قال اللَاّت التي كان يقوم على آلهتهم، وكان يَلُتَّ لهم السويق، والعُزَّى بنخلة، نخلة كانت يعلقون السيور والعهن عليها، ومَناة حجر بقديد (2).
وأما الْخَلَصة: -بفتحتين، وبضمتين- ونَهيك، ومُطعم الطير: فروى الأزرقي عن ابن إسحاق قال: نصب عمرو بن لحي الخلصة بأسفل مكة، وكانوا يلبسونها القلائد، ويهدون لها الشعير والحنطة، ويصبون عليها، ويحلفون لها، ويعلقون عليها بيض النعام.
قال: ونصب على الصفا صنماً يقال له: نَهيك، ومجاود الريح.
ونصب على المروة صنمًا يقال له: مُطعم الطير (3).
وذو الخلصة؛ قال في "القاموس": [بيت] كان يدعى الكعبة اليمانية بخثعم، كان فيه صنم اسمه الخلصة، أو لأنه كان منبت الخلصة، وهي واحدة الخلص -بفتحتين- وهو شجر كالكرم يتعلق بالشجر فيعلو، طيب الرائحة، حَبّهُ كخرز العقيق (4).
(1) رواه عبد الرزاق في "التفسير"(3/ 253)، والطبري في "التفسير"(27/ 58 - 59).
(2)
روى الطبري في "التفسير"(27/ 58) طرفاً منه، وانظر:"الدر المنثور" للسيوطي (7/ 653).
(3)
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(1/ 124).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 797)(مادة: خلص).
وروى الإِمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ ألياتُ [نساء] دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ"(1).
وروى الأزرقي، وابن أبي شيبة، والشيخان، والترمذي، والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمئةٍ وستون صنماً، فجعل يطعنها ويقول:"جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيْدُ"(2).
وروى الأزرقي، والطبراني بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وإن بها ثلاثمئة وستين صنماً قد شدها لهم إبليس بالرصاص، وكان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، وكان يقوم عليها فيقول:"جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً"، ويشير إليها بقضيب فتسَّاقط على ظهورها (3).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 271)، والبخاري (6699)، ومسلم (2906).
(2)
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(1/ 121)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(36906)، والبخاري (2346)، ومسلم (1781)، والترمذي (3138)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11297).
(3)
رواه الأزرقي في "تاريخ مكة"(1/ 120)، والطبراني في "المعجم الصغير" (1152). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 51): رواه الطبراني في "الصغير" وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات.