الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملك جاره فلا يتناول منها ثمرة، ويمرون بعضهم بحدائق البعض فلا يتناول منه شيئاً، وربما يمدحهم جهلة من يمر ببلادهم بذلك، وهم إذا مروا بشجر الشرعِي أو زرعِه، أو ظَفِروا بماله استحلوه، وأخذوه.
164 - ومنها: الانهماك في حب الدنيا، وتعيير الصالحين بالفقر والقلة
.
حكى الماوردي في كتاب "أدب الدين والدنيا" أن اليهود عيَّرت عيسى بن مريم بالفقر، فقال: مِنَ الغِنى أُتِيتم (1).
ولقد يبلغ من جهل الجاهلين والجاهلات من هذه الأمة أن يعيروا العلماء والصالحين بالفقر وقلة ذات اليد، ويقولون لهم: لسنا كأمثالكم نأكل صدقات الناس، وربما عيَّروهم بخشونة العيش، وعدم القدرة على فاخر الثياب والزي، وكل ذلك أخلاق جاهلية ناشئة عن طباع ردية.
وما أحسن ما أنشده أبو طالب المكي، وغيره؛ وأحسبه لمحمود الوراق رحمه الله تعالى:[من السريع]
يا عائبَ الْفَقْرِ تُرِيْدُ الْغِنَى
…
عَيْبُ الْغِنَى أَعْظَمُ لَوْ تَعْتَبِرْ
(1) انظر: "أدب الدنيا والدين" للماوردي (ص: 139)، ورواه الإمام أحمد في "الورع" (ص: 72).
إِنَّكَ تَعْصِي لِتَنالَ الْغِنَى
…
وَلَيْسَ تَعْصِي اللهَ كَيْ تَفْتَقِر
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد" عن ابن شوذب رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: جودة الثياب خيلاء القلب (1).
ومن أول ما نطق به لقمان من الحكمة أنه قال: إنَّ من يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ضائعاً؛ أي: شريفاً في الدنيا ضائعاً في الآخرة.
قال: ومن اختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا، ولا يصير إلى ملك الآخرة (2).
روى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى - مرسلاً -، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن لقمان لمَّا تكلَّم بهذه الحكمة عجبت الملائكة من حسن منطقه؛ قام نومة فغطَّ بالحكمة غطًّا، فانتبه فتكلم بها (3).
ويلائم هذا حديث أبي خلَاّد رضي الله تعالى عنه وهو في "سنن ابن ماجه"، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الشعب"
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 373).
(3)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 373).
من حديثه، ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُل قد أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ"(1).
وحقيقة الحكمة فهم آيات الله تعالى وتدبرها، ومشاهدة مظاهر أسمائه.
وكما تلقَّنها الزاهد في الدنيا يصرف عنها الرَّاغب فيها، المختال بها، المتكبر بما خوِّل منها، كما قال الله تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام:{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 145 - 146].
وكل من تكبر بشيء من الدنيا فقد تكبر بغير الحق، وافتخر بما لا فخر فيه.
ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله: [من السريع]
ما بالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَة
…
وَجِيْفَة آخِرُهُ يَفْخَرُ
(1) رواه ابن ماجه (4101)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(15/ 405)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(10529) عن أبي خلاد رضي الله عنه.
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 317)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
عَجِبْتُ لِلإِنْسانِ فِيْ فَخْرِهِ
…
وَهْوَ غَداً فِي حُفْرَةٍ يُقْبَرُ
لا فَخْرَ إِلَاّ فَخْرُ أَهْلِ التُّقَى
…
غَداً إِذا ضَمَّهُمُ الْمَحْشَرُ
وروى الإمام أحمد في "الزهد" عن وهب بن منبه قال: وجدت فيما أنزل الله على نبيه وعبده موسى عليه السلام: إنَّ من أحبَّ الدنيا أبغضه الله، ومن أبغض الدنيا أحبَّه الله، ومن أكرم الدنيا أهانه الله، ومن أهان الدنيا أكرمه الله (1).
وروى أبو الحسن بن جهضم في "مناقب الأبرار" عن ابن عطاء قال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم! إن أعطيتك الدنيا اشتغلت بحفظها، وإن منعتك اشتغلت بطلبها، فمتى تتفرغ لي؟
وبهذا مع ما سبق يتضح لك شؤم الدنيا على أهليها أعاذنا الله تعالى من شؤمها، وحفظنا من مذمومها (2).
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 560).
(2)
جاء في نهاية الجزء الثالث من النسخة الخطية المرموز لها بـ "م": "نجز الثلث الثالث من كتاب حسن التنبيه لما ورد في التشبه، لفقير عفو ربه القدير نجم الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد، المعروف بابن رضي الدين، صبح الجمعة، سادس عشر جمادى الأولى، سنة خمس وثلاثين وألف، أحسن الله ختامها، والحمد لله".