الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(12) بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالأَعَاجِمِ وَالمَجُوسِ
(12)
بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّهِ بِالأَعَاجِمِ وَالمَجُوسِ
جمع مجوسي، منسوب إلى مجوس كصبور؛ رجل صغير الأذنين وضع دينًا ودعا إليه، معرب من جكوس (1)؛ قاله في "القاموس"(2).
وهم يعبدون النار والكواكب، ولا كتاب لهم، ومن ثمَّ تباشرت قريش بغلبة فارس على الروم، وتفاءلوا بأنهم يغلبون المسلمين كما غلبت فارس الروم لأنهم ليسوا بأهل كتاب، والمسلمون أهل كتاب، فأنزل الله تعالى ذلك:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1 - 4] كما ثبت في "جامع الترمذي"، وكتب التفسير (3).
ولفظ: الأعاجم، والعجم قد يطلق ويراد به فارس خاصة كما سيأتي.
وتارة يطلق ويراد به ما عدا العرب من الناس كما تطلق العجمية
(1) في "القاموس المحيط": "من منج كوش" بدل "جكوس".
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 740)(مادة: مجس).
(3)
رواه الترمذي (3193) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ويراد بها ما سوى العربية.
وعلى هذا: فمهما أطلق مدح العرب في موضع كان مفهومه إطلاق ذم العجم به.
وبالجملة: ففضل العربية والعرب لا ينكر، ويدل عليه العقل والنقل.
أما العقل فلأن بني آدم أفضل من الحيوان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وكرامة بني آدم بالنطق، والعقل، والبيان المتولد عنهما.
ولقد امتن الله تعالى على الإنسان بتعليمه البيان في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4].
فكلما كان النطق والعبادة أوضح وأفهم، وكان العقل أقوى وأحكم، كان الفضل أظهر.
ولا شك أن العرب أحلى منطقًا وأوضح عبارة، ولسانهم أتم الألسنة بيانًا وتمييزًا للمعاني جمعًا وفرقًا.
يجمع المعاني الكثيرة في العبارات القصيرة، ويميز بين المعاني المختلفة تارةً بالكلمات، وتارة بالحركات، وهم يتصرفون بالألفاظ ما لا يتصرف به غيرهم مع الفصاحة والبلاغة، ولذلك كان القرآن معجزًا.
ثمَّ إذا ثبت أن لسان العرب بهذه المثابة علمت أن عقولهم أتم لأنَّ اللسان ترجمان عن معقول كل إنسان، ومن ثمَّ لم تحتج عقول
العرب في فهم المعاني والعلوم إلى رياضتها بآلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ -وهي المسماة بعلم المنطق- بخلاف الأعاجم.
وحكي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: اصطنع رجل إلى رجل من العرب معروفًا فوقع منه، فقال له: أجارك الله من غير أن يبتليَك.
وقال الشافعي: هم أَحَدُّ الناس عقولًا (1)؛ يعني: العرب.
وأيضًا: فإنَّ مما تظهر به كرامة ابن آدم حسن الخلق واعتدال الغريزة، وإلا كان هو والبهائم سواء، وكلما حسن خلقه واعتدلت خليقته تمَّ كماله، وظهرت كرامته، ومن ثمَّ أثنى الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
ولا شك أن غرائز العرب أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب إلى السماحة، والسخاوة، والحلم، والعفو، والشجاعة، والوفاء، وغيرها من الأخلاق الكريمة.
ولكن كانت قبل الإِسلام طبائعهم قابلة للخير معطلة عن فعله لما ألفته نفوسهم من الجهل وعدم الهدى؛ إذ لم تبق فيهم شريعة موروثة عن نبي، ولا كان فيهم علم منزل من السماء، حتى بعث الله تعالى فيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى والكتاب المنير كما قال تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
(1) رواه ابن المقرئ في "معجمه"(3/ 88)، وابن الجوزي في "الأذكياء" (ص: 89).
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]، فتلقوا عنه ما جاء به صلى الله عليه وسلم كل منهم على حسب قابليته وتهيئته؛ بعضهم بمجرد الدعوة كأبي بكر، وعمار، وعلي، وزيد بن حارثة، وخديجة، وإخوانهم رضي الله تعالى عنهم.
وبعضهم بالمجاهدة والمعالجة -وهم الأكثرون- فصاروا بهذا الاعتبار أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأفضلهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار بسبب ما تنبهت له قلوبهم من الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق له، والاقتداء به، والأخذ عنه.
وبان بعد ذلك أن الفضل إنما هو بالإيمان والتصديق، وحسن الاتباع كما قال الله سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وفي الحديث: "أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعَجَمِيٍّ، وَلا لأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى"(1).
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لوددت أني أعلم أن الله قد غفر لي ذنبًا من ذنوبي، وإني لا أبالي أي ولد آدم ولدني. رواه ابن أبي شيبة (2).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 411)، عن أبي نضرة عن أحد الصحابة.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(34526).
نعم، إذا استوى الناس في التقوى قدِّم العربي على غيره لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].
روى سعيد بن منصور، والمفسرون عن مجاهد في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قال: العرب.
{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال: العجم (1).
ولحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ خِيارُهُمْ في الْجاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا، والأَرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ؛ مَا تَعارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَناكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ"(2).
وتأمل ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن أبي عقبة -وكان مولى من أهل فارس- قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، فضربت رجلًا من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي.
(1) رواه الطبري في "التفسير"(28/ 94 - 95)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10/ 3355).
(2)
رواه مسلم (2638)، وصدر الحديث عند البخاري (3304).
فالتفت إليَّ -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هَلَّا قُلْتَ خُذْهَا وَأَنَا الغُلامُ الأَنْصارِيُّ"(1).
فانظر كيف حثَّه النبي صلى الله عليه وسلم على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء، وكان الإظهار لذلك أحب إليه من الانتساب إلى فارس، وفي ذلك أمران:
الأوَّل: أنَّ من أمكنه الانتساب إلى العرب ولو بالولاء فلا ينبغي له أن ينتسب إلى العجم، وهنا أمكن أبا عقبة أن ينتسب إلى الأنصار وهم من العرب، فلم يرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتسب إلى العجم مع ذلك.
والأمر الثاني: أن من أمكنه أن ينتسب إلى جهة أعزها الإِسلام كالنصرة والهجرة، فلا ينبغي أن يعدل عنها إلى الشعوب والقبائل لأنه خلق جاهي كما سيأتي.
ومن هنا مدح النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه بنسبته إلى بيته، فقال:"سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ" كما رواه ابن سعد في "طبقاته"، والحسن بن سفيان في "مسنده"، والطبراني في "معجمه الكبير"، والحاكم في "مستدركه"؛ وإن تعقب عليه في تصحيحه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنه (2).
(1) رواه أبو داود (5123)، وكذا ابن ماجه (2784).
(2)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 318)، والحاكم في "المستدرك" =
وروى الطبراني في "معجمه الصغير"، و"الأوسط" بإسناد حسن، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم موليان؛ حبشي وقبطي، فاستبَّا يومًا فقال أحدهما: يا حبشي، وقال الآخر: يا قبطي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تَقُوْلا هَذَا؛ إِنَّما أَنْتُمَا رَجُلانِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "(1).
وأما النقل الدال على فضل العرب بعد كتاب الله تعالى فأحاديث كثيرة نذكر بعضها:
روى مسلم، والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ الله اصطَفَى كِنانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيْلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنانَةَ، واصطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هاشِمٍ"(2).
ورواه الإمام أحمد، والترمذي بلفظ:"إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْراهِيْمَ إِسْماعِيْلَ، واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِسْماعِيْلَ بَنِي كِنَانَةَ" إلى آخره (3).
= (6541). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 130): رواه الطبراني وفيه كثير بن عبد الله المزني، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات.
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الصغير"(573)، و"المعجم الأوسط"(8210).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 81): رواه الطبراني في الصغير وفيه يزيد بن أبي زياد وهو لين وبقية رجاله ثقات.
(2)
رواه مسلم (2276)، والترمذي (3603).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 107)، والترمذي (3602) وصححه.
قال ابن تيمية: وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم عليهما السلام، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل، فإذا ثبت فضلهم عليهم وهم أفضل العجم فعلى غيرهم أولى، ولو لم يكن هذا مقصودًا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة حيث لم يكن اصطفاؤه دالًّا على اصطفاء ذريته، انتهى ملخصًا (1).
وروى الحاكم وصححه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إِنَّ اللهَ اخْتارَ مِنْ بني آدَمَ العَرَبَ، واخْتَارَ مِنَ العَرَبِ مُضَرَ، واخْتَارَ مِنْ مُضَرٍ قُرَيْشًا، واخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بني هاشِمٍ، واخْتَارَنِي مِنْ بني هاشِمٍ؛ فأنا مِنْ خِيَارٍ إلَى خِيَارٍ، فَمَنْ أَحَبَّ العَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ العَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ"(2).
وروى البزار بإسناد جيد، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: نُفَضِّلكم يا معشر العرب لتفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم؛ لا ننكح نساءكم، ولا نؤمكم في الصلاة (3).
وروى الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، والحاكم وصححه،
(1) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 154).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6953)، وكذا ابن أبي الدنيا في "الإشراف في منازل الأشراف" (ص: 266)، والطبراني في "المعجم الكبير"(13650).
(3)
ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(6157). وعزاه ابن تيمية للبزار في "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص: 158) وقال: وهذا إسناد جيد.
والبيهقيُّ، والسِّلَفي -وقال: هذا حديث حسن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحِبُّوا العَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، والقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَلِسَانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ"(1).
وروى الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنا عَرَبِيٌّ، والقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَلِسانُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ"(2).
وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أَنْزَلَ اللهُ وَحْيًا قَطُّ عَلَى نبِيٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِلَّا بِالعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ هُوَ بَعْدُ يُبَلِّغُهُ قَوْمَهُ بِلِسَانِهِ"(3).
وروى الطبراني أيضًا -ورجاله ثقات- عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي دَعَوْتُ لِلْعَرَبِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ مَنْ لَقِيَكَ مِنْهُمْ مُعْتَرِفًا بِكَ فاغْفِرْ لَهُ أَيَامَ حَيَاتِهِ، وَهِيَ دَعْوَةُ إِبْراهِيْمَ وإِسْماعِيْلَ عليهما السلام، وإِنَّ لِوَاءَ الْحَمْدِ يَوْمَ القِيامَةِ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11441)، و"المعجم الأوسط"(5583)، والحاكم في "المستدرك"(6999)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان"(1610). وفي سنده ضعف.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(9147). وفي سنده ضعف.
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(4635). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 53): فيه سليمان بن أرقم، وهو ضعيف.
بِيَدِي، وإِنَ أَقْرَبَ الْخَلْقِ مِنْ لِوائِي يَوْمَ القِيامَةِ العَرَبُ" (1).
وقوله: "فاغْفِرْ لَهُ أيَّامَ حَياتِهِ"؛ أي: ذنوب أيام حياته.
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا تُبْغِضْنِي فَتُفارِقَ دِيْنَكَ".
قلت: يا رسول الله! كيف أبغضك وبك هداني الله؟
قال: "تَبْغَضُ العَرَبَ فَتَبْغَضُنِي"(2).
وروى الحاكم وصححه، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ قُرَيْشٍ إِيْمانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ، وَحُبُّ العَرَبِ إِيْمانٌ، وَبُغْضُهُمْ كُفْرٌ؛ فَمَنْ أَحَبَّ العَرَبَ فَقَدْ أَحَبَّني، وَمَنْ أَبْغَضَ العَرَبَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي"(3).
(1) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 52): رواه الطبراني، وروى البزار منه:"اللهم من لقيك منهم مصدقًا بك وموقنًا فاغفر له" فقط، ورجالهما ثقات.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 440)، والترمذي (3927) وقال: حسن غريب، والحاكم في "المستدرك"(6995).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك"(6998) لكن روى منه فقط: "حب العرب إيمان وبغضهم نفاق".
ورواه بلفظ "أ": الطبراني في "المعجم الأوسط"(2537). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 53): فيه الهيثم بن جماز، وهو متروك.
وروى السِّلَفي في "فضل العرب" عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُبُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الإِيْمانِ، وَبُغْضُهُمَا مِنَ الكُفْرِ، وَحُبُّ العَرَبِ مِنَ الإِيْمانِ، وَبُغْضُهُمْ مِنَ الكُفْرِ"(1).
وإنما استدللنا بهذه الأحاديث على أفضلية العرب لأنَّ الفضل تابع للمحبة، ومن كان حبه دينًا وإيمانًا فإنما هو لما فيه من زيادة الفضل والمزية.
وروى الإمام أحمد، والترمذي عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّ العَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَفَاعَتِي، وَلَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتِي"(2).
وروى أبو يعلى بإسناد قريب، عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا ذَلَّتِ العَرَبُ ذَلَّ الإِسْلامُ"(3).
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على
(1) ورواه الديلمي في "مسند الفردوس"(2719). قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"(ص: 156): رواه السلفي، وهذا الإسناد وحده فيه نظر، لكن لعله روي من وجه آخر.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 72)، والترمذي (3982) وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي.
(3)
رواه أبو يعلى في "المسند"(1881). قال أبو حاتم: حديث باطل، ليس له أصل. انظر:"علل الحديث" لابن أبي حاتم (2/ 376).
قدر أنسابهم، فبدأ بأقربهم نسبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انقضت العرب ذكر العجم.
وهكذا كان الديوان على عهد بقية الخلفاء الراشدين، وسائر الخلفاء من بني أمية وبني العباس إلى أن تغير الأمر.
فإن قلت: فما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ العِلْمُ (1) عِنْدَ الثُّريَّا لتَنَاوَلَهُ رِجالٌ مِنْ أَبْنَاء فَارِسَ". رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (2).
وفي "الصحيحين" عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال قائل منهم: يا رسول الله! من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، وقال:"والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كان الإِيْمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجالٌ مِنْ هَؤُلاء"(3).
وروى الترمذي وحسنه، عنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فقالوا: ومن يستبدل بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكب سلمان رضي الله تعالى عنه، ثمَّ قال:"هَذَا وَقَوْمَهُ"(4).
(1) عند مسلم: "الدين" بدل "العلم".
(2)
رواه مسلم (2546).
(3)
رواه البخاري (4615)، ومسلم (2546).
(4)
رواه الترمذي (3260) وقال: حديث غريب في إسناده مقال.
وفي رواية: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَخِذَ سلمان فقال: "هَذَا وَأَصْحَابَهُ، والَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ لَوْ كانَ الإِيْمانُ مَنُوْطًا بِالثُّرَيَّا لتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فارس"(1).
فهذه الآية على ما فسرت به هذا الحديث دالة على فضل أبناء فارس؛ فإن المستبدل في مثل هذا المقام لا بد أن يكون أمثل من المستبدل منه.
فالجواب عن ذلك:
أما الحديث الأوَّل: فإن العلم لا يستلزم الفضل المطلق، فقد يوجد أفضل من العالم بالشيء ممن لا يعلم به كما علم الخضر عليه السلام ما لم يعلمه موسى عليه السلام مع أن موسى أفضل منه، ولا يلزم من نيل رجال من فارس العلم أن لا يناله غيرهم، ولا أن يكون من ناله منهم أفضل ممن ناله من غيرهم.
وأما الحديث الثاني، وكذلك الأوَّل: فإنَّ حاصل ما يؤخذ منهما أنَّ من أبناء فارس من ينال فضل الإيمان والعلم، ثمَّ من ساواهم في ذلك من العرب لا يلزم أن يكون الفارسي أفضل منه بغير مزية أخرى، بل نقول: إن العربي المتساوي معه في العلم والإيمان أفضل منه، وقد يؤخذ هذا من تفسير الآية المنزلة بالحديث على قوم سلمان؛ أعني: قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]؛ إذ معنى {لَمَّا
(1) رواه الترمذي (3261).
يَلْحَقُوا بِهِمْ}: لم يدركوهم في شرف النفس، وكرم الحسب، ومكارم الأخلاق.
وأما الآية المفسرة في الحديث الثالث، وهي قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] فإن الاستبدال يستلزم لخيرية المستبدل وميزته على المستبدل منه، إنما يكون بسبب التولي عن الطاعة، ومن تولى عن الطاعة فلا فضل له أصلًا وإن كان شريف النسب.
ثمَّ اعلم أن فضيلة من كان من ذوي الفضل من الأعاجم لا يسع أحدًا إنكاره، لكن النظر في فضل ذوي الفضل منهم من أي جهة ثبت لهم الفضل ليس إلا من قبل العرب؛ إذ لا فضل لأحد إلا بالعلم والإيمان والتقوى، ولا يتوصل أحد إلى شيء من ذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من قبله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثمَّ علمت أن فضل سلمان وصهيب رضي الله تعالى عنهما لم يكن لكونهما أعجمين؛ أحدهما فارسي والآخر رومي، بل لأخذهما الفضل عن سيد العرب صلى الله عليه وسلم، ومن ثمَّ كان سلمان سيد فارس وسابقهم، وصهيب سيد الروم وسابقهم، وبلال سيد الحبش وسابقهم.
روى البزار، والحاكم وصححه، عن أنس، والطبراني في "الكبير" عنه، وعن أم هانئ، وابنُ عديّ عن أسامة رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السُّبَّاقُ أَرْبَعَةٌ: أَنا سابِقُ العَرَبِ، وَصُهَيْبٌ
سابِقُ الرُّوْمِ، وَسَلْمَانُ سابِقُ الفُرْسِ، وَبِلال سابِقُ الْحَبَشِ" (1).
وفي حديث آخر: "سَيِّدُ العَرَبِ مُحمَّدٌ، وَسَيِّدُ الرُّوْمِ صُهَيْب، وَسَيِّدُ الفُرْسِ سَلْمانٌ، وَسَيِّدُ الْحَبَشَةِ بِلالٌ". رواه الديلمي عن علي رضي الله تعالى عنه (2).
ثمَّ إن الفضل لا يثبت لأحد من العجم بعد هؤلاء إلا لمن وفقه الله تعالى إلى الاجتهاد في تحقيق التشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، والسابقين إلى الاهتداء بهديه من أصحابه المهاجرين والأنصار الذين منهم صهيب وسلمان لكونهما مقتفين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم، لا لكونهما أعجميين، بل من ظنَّ فيهما أنهما لم ينسلخا من أعمال العجم وآدابهم وعاداتهم المخالفة للشرع، ولم يتشبها بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعماله وآدابه وأخلاقه، فقد أساء الظن بهما.
(1) رواه البزار في "المسند"(6901)، والحاكم في "المستدرك"(5715)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7288) عن أنس رضي الله عنه. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 305): فيه عمارة بن زاذان، وهو ثقة وفيه خلاف.
والطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 435) عن أم هانئ رضي الله عنها.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 305): فيه فائد العطار، وهو متروك.
وابن عديّ في "الكامل"(2/ 75) عن أبي أمامة رضي الله عنه. قال أبو زرعة وأبو حاتم: حديث باطل لا أصل له بهذا الإسناد. انظر: "ميزان الاعتدال" للذهبي (2/ 51).
(2)
رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3471).
فقد علم من ذلك أن تشبه الأعجمي بالعربي فيما يرضى به الله تعالى من الطاعات والآداب والأخلاق مندوب إليه محثوث عليه، وأن تشبه العربي بالأعجمي فيما لم ترد به الشريعة والسنة من الآداب والعادات منهي عنه ممنوع منه لمخالفته سَمت النبي صلى الله عليه وسلم وسمت أصحابه الكرام، وقد أمرنا بمتابعتهم، ونهينا عن مخالفتهم.
ولمَّا كان الفرس أقرب إلى التلبس بالإيمان والخير من سائر العجم، وكان أهل أصبهان أقربهم إلى ذلك، قال سعيد بن المسيّب: لو لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس، ثمَّ أحببت أن أكون من أصبهان (1).
وفي رواية: لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أهل أصبهان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ الدِّيْنُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لتَنَاوَلَهُ نَاسٌ مِنْ أَبْناءِ العَجَمِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِها فارِسُ وَأَصْبَهانُ". رواه السِّلَفي في كتاب "فضل الفُرس" بإسناد جيد (2).
قالوا: وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس.
ويروى عن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة رضي الله عنهم أنَّه قال: أمي من أصبهان، ونشأت برامهرمز.
(1) رواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(1/ 64).
(2)
انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 163).
قيل: وكان اسم سلمان: روزبه بن راهمان من قرية جبان، وأهل هذه القرية يعرفون الموضع الذي ولد فيه.
ويحكى: أن سلمان كتب إلى قومه أن يتخذوا داره مسجدًا.
قيل: وكان هو القائم بأمر الجيش.
وكان رضي الله تعالى عنه أول من قام قبل الإِسلام بالعدل في الناس، ودعا إليه، ونهج طريق الإنصاف والتسوية بين القوي والضعيف في الحكم، وقصة إسلامه ومناقبه مشهورة في كتب الحديث، وغيرها (1).
وروى السِّلَفي عن الأصمعي أنَّه قال: عجم أصبهان قريش العجم (2).
قلت: وسمعت بعض الأعاجم يرويه حديثًا مرفوعًا، وليس كذلك، وهو تهور لا يعتد به.
نعم، روى ابن النجار عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسلَمَ مِنْ فارِسَ فَهُوَ قُرَشيٌّ"(3).
ومعناه -إن صح-: فهو في العجم كالقرشي في العرب، لا أنَّه والقرشي في رتبة واحدة.
(1) انظر: "مسند الإمام أحمد"(5/ 441)، و"السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 41).
(2)
انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 163).
(3)
ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن ابن عباس رضي الله عنهما.
واعلم أن الأعجمي كلما كان أقرب إلى أخلاق العرب كان أوفر عقلًا، وأظهر فضلًا، ولا سيما محبة التكلم بلسان العرب لأنَّ اللسان هو الفارق بين العرب والعجم.
ومن ثمَّ ورد في الحديث: "مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ".
رواه السِّلَفي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (1).
فتشبه الأعجمي بالعربي دليل عقله، وجَزالة رأيه، واستكماله الدين، بخلاف تشبه العربي بالأعجمي؛ فإنَّه دليل الجهل، والحماقة، وسخافة الرأي، وقلة الدين؛ أعني: تشبهه به في غير المشروع، ومن ثمَّ جاء النهي عن التشبه بالأعاجم.
ثمَّ إنَّ ما يؤمر به الأعجمي من التشبه بالعرب في الدين والأخلاق الكريمة إنما هو على قدر طاقته؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وما لا يستطيعه من ذلك ينبغي أن ينويه ويتحراه، ويحزن على فواته؛ فإن الأعمال بالنيات، وحينئذ لا يحرم بركة ما فاته.
روى أبو عبيد القاسم -مرسلًا- عن بكر بن الأخنس رحمه الله تعالى أنَّه قال: كان يقال: إذا قرأ الأعجمي، والذي لا يقيم القرآن كَتَبه المَلَكُ كما أنزل (2).
أي: كتب له الملك ثوابه كما لو أتى به مستقيمًا؛ فإن تلك نيته،
(1) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 168).
(2)
رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن"(1/ 93).
وأتى بمقدرته.
ثمَّ العرب الذين لهم الفضل هم [أولاد] إسماعيل بن إبراهيم، ومن بعده.
روى ابن باكويه الشيرازي في "الألقاب" عن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسَانَهُ بِالعَرَبِيَّةِ الْمُهَيْمِنَةِ إِسْماعِيْلُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً"(1).
"وروى الحاكم، والبيهقيُّ وصححاه، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، ثمَّ قال: "أُلْهِمَ إِسْماعِيْلُ هَذا اللِّسَانَ العَرَبِيَّ إِلْهامًا بَعْدَ أَنْ دَرَسَ" (2).
وبهذا تبيّن أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسانه بِالعَرَبِيَّةِ" معناه: بعد اندراسها.
وإلا فقد روى ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن آدم عليه السلام كانت لغته في الجنة العربية، فلما عصى سَلَبه الله تعالى العربية، فتكلم بالسُّريانية، فلما تاب رد الله تعالى عليه العربية.
وذكر جماعة من علماء اللغة: أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام، وهم تسع قبائل: عاد، وثمود، وأميم، وعسل، وطسم، وجديث، وعملق، وجاسم، وجُرهم.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 403).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(3641)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان"(1620).
ومنهم تعلَّمَ إسماعيل العربية.
ويقال لذرية العرب: المستعربة؛ أي: المستوضحة؛ بمعنى أنهم يتكلمون بأعرب اللغات وأفصحها، وهم عرب الحجاز.
وأما عرب اليمن فهم بنو قحطان؛ تعلموا العربية ممن نزل اليمن من بني إسماعيل، ويقال لهم: العرب المتعربة.
فالعرب المفضلون هم بنو إسماعيل، ومن بعدهم من عرب اليمن وغيرهم، وأفصحهم وأفضلهم من كان من ولد إسماعيل، وأفضلهم قريش، ومن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَنَا أَعْرَبُ العَرَبِ وُلِدْتُ في قُرَيْشٍ، وَنشَأْتُ في بَنِيْ سَعْدٍ؛ فأَنَّى يَأْتِيْني اللَّحْنُ". رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (1).
وروى ابن منده، وأبو نعيم في "الدلائل"، وابن عساكر عن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه قلت: يا رسول الله! ما لكَ أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟
قال: "كَانَتْ لُغَةُ إِسْماعِيْلَ عليه السلام قَدْ دَرَسَتْ، فَجَاءَ بِها جِبْرِيْلُ عليه السلام، فَحَفِظْتُها"(2).
وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(5437). وضعف العراقي إسناده في "تخريج أحاديث الإحياء"1/ 635).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(4/ 3).
رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195] قال: بلسان قريش (1).
ورواه ابن النجار عن ابن عباس؛ زاد: ولو كان غير عربي ما فهمه (2).
ولا معارضة بين هذا وبين ما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقيُّ في "الشعب" عن بريدة رضي الله تعالى، عنه في قوله:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} قال: بلسان جرهم (3)، لما علمت أنَّ إسماعيل تعلم العربية منهم، فلغة قريش هي لغتهم.
ثمَّ العجم في الأصل اسم لِمَن سِوى العرب، فيشمل بني إسرائيل، وبني الأصفر، والروم، والترك، والفرس، والقبط، والحبشة، والزنج، والبربر، وغيرهم.
ثمَّ غلب لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين على الفرس، وهم المجوس، وهم المراد في هذا الباب بالأعاجم والعجم؛ وإن كان غالب الأمم المتقدمة المنهي عن التشبه بهم في ما سبق داخلين في لفظ العجم.
فاعلم أن المجوس ليس لهم كتاب ولا شريعة، بل كانوا يعبدون
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2818).
(2)
ورواه الرافعي في "أخبار قزوين"(1/ 297).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 2818)، والحاكم في "المستدرك"(3642)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان"(1622).
النار والكواكب، ولذلك كانوا بأهل الجاهلية أشبه منهم بأهل الكتاب، ومن ثمَّ فرح المشركون حين غلبت فارس الروم كما تقدم.
وسنذكر النهي عن التشبه بأهل الجاهلية عقب هذا الباب لهذا المعنى.
ومما ورد نصًا في هذا الباب حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بالأعاجم، وقال:"مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". رواه أبو يعلى (1).
والمراد أنَّه نهى عن التشبه بهم في خصالهم، وأخلاقهم، وآدابهم؛ سواء في ذلك ما كانوا عليه قبل الإِسلام، وما هم عليه بعد الإِسلام إذا كان مخالفًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه هو وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي عثمان -هو النَّهدي-: أنَّ عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه فيما كتب إليه: وعليكم بلبس المَعَدِّيَّة، وإياكم وهديَ العجم؛ فإن شر الهدي هديُ العجم (2).
وروى هو والإمام أحمد عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنَّه قال في كلام له: وذروا التنعم وزي العجم، وإياكم وهدي العجم؛ فإن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(32922).
شر الهدي هديُ العجم (1).
والهدي كما في "القاموس"، وغيره: الطريقة والسيرة (2).
وروى البيهقي في "الشعب" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] قال: يعني: باطل الحديث.
وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث العجم، وصنعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة والشام، ويعرض عن القرآن، فلم يؤمن به؛ أي: فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6](3)؛ أي: ليثبت على ضلاله على قراءة أبي عمرو وابن كثير بفتح أوله.
وقرأ الباقون بضم أوله؛ أي: ليضل غيره عن سبيل الله؛ أي: عن طريق الله الذي سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه إشارة إلى أن كتابة مثل ذلك، ونقله، وإملاءه على الناس فيه تحريك النفوس لاتباع بعض ذلك والعمل به؛ فإن النفوس أخوات يستحسن بعضها أوضاع بعض، فربما استجرَّ ذلك المرء إلى استحسان
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(24869)، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 43) واللفظ له.
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1734)(مادة: هدي).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5194).
ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أحوال من سبق.
وروى أبو يعلى عن عامر بن عرفطة قال: كنت جالسًا عند عمر رضي الله تعالى عنه إذ أُتيَ برجل من عبد القيس، فقال له عمر: أنت فلان العبدي؟
قال: نعم.
فضربه بقناة معه، فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟
قال: اجلس.
فجلس، فقرأ عليه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1 - 3]، فقرأها عليه ثلاثًا، فضربه ثلاثًا.
فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟
فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال.
قال: مرني بأمرك أتبعه.
قال: انطلقْ فامحُه بالحميم، وانصرف ثمَّ لا تقرأه، ولا تُقرئه أحدًا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك أقرأته أحدًا من الناس لأنهكنك عقوبة.
ثمَّ قال: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابًا من أهل الكتاب، ثمَّ جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا هَذَا في يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ ".
قلت: يا رسول الله! كتاب نسخته لنزداد به علمًا إلى علمنا.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، ثمَّ نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم؟ السلاح، السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيُّها النَّاسُ! إِنِّي قَدْ أُوْتيْتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ وَخَواتِيْمَهُ، واخْتُصِرَ لِيَ الكَلامُ اخْتِصارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِها بَيْضاءَ نَقِيًّا فَلا تتَهَوَّكُوا، وَلا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُوْنَ".
قال عمر رضي الله تعالى عنه: رضيت بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا، وبك رسولًا، ثمَّ نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
قال في "القاموس": المتهوك: المُتحيِّر (2)، كالهواك، كشداد، والساقط في هوة الرَّدى.
والهوكة -بالضم -: الحفرة.
وهوك: حفر.
قال: والتهوك: التهور والوقوع في الشيء بغير مبالاة (3).
وفي الحديث إشارة إلى أن من لم يكتف بما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء به من الآداب، وأراد أن يخلطه بآداب أهل الكتاب والأعاجم،
(1) انظر: "المطالب العالية" لابن حجر (12/ 614)، ورواه الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" (ص: 51).
(2)
في "القاموس المحيط": "المتحير" بدل "المتجبر".
(3)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 1237)(مادة: هوك).