الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يتميز اليهود من حب الحياة لغير طاعة الله تعالى، والاستكثار من الخير، بل للتلذذ والتنعم بالدنيا، والتبسط في الطغيان بزيادة على سائر الناس، فلذلك قال الله تعالى:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96].
205 - ومنها: الادخار شحًا وبخلًا
.
وتقدم أنَّ البخل من أخلاق بني إسرائيل، وعدم الثقة بوعد الله تعالى، وترك الاتكال عليه، والتوكل على ما سواه.
قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 21، 22].
يعني: العماليق، وهم الكنعانيون، وكان لهم ضخامة زائدة، وطول مُفْرِط. يحكى أن الواحد منهم كان يأخذ عشرة من بني إسرائيل في يده، وكان الله تعالى قد أمر موسى عليه السلام بقتالهم، ووعده أن ينصره عليهم، ويدخلهم أرض الشام، وقال: يا موسى! إني كتبتها لكم دارًا وقرارًا، فلما تعرَّفَ بنو إسرائيل ما عليه الكنعانيون من القوة والإفراط في الطول والضخامة جبنوا، ولم يثقوا بالله تعالى ووعده: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ}؛ أي: من الله تعالى، وهما يوشع، وكالب.
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} ؛ أمروهم بالشجاعة.
{فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ؛ فإن الله تعالى منجز وعده، ومصدق رسله.
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
قيل: فلما قالا ذلك همَّ بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة.
فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ، وهم ستمئة ألف مقاتل، وكانوا يسيرون كل يوم جادين، فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه، ورزقهم الله تعالى في التيه المنَّ والسلوى.
والمن: الترنجبين؛ وفي الحديث الصحيح: "الكَمأَةُ مِن الْمَنِّ"(1).
والسلوى: طائر يشبه السَّمَّان.
وكان مع موسى عليه السلام فهو يضعه في مخلاته، يضربه فيسيل
(1) رواه البخاري (4363)، ومسلم (2049) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
منه اثنتا عشرة عيناً، يشرب كل سبط منهم من عين منها.
وكانوا إذا أصبحوا أنزل الله عليهم المنَّ والسلوى من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومه وليلته، وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه كان لا ينزل عليهم يوم السبت، وكان لا يجوِّز لهم أن يدخروا ما يزيد على ذلك، فادخروا فأنتنَ اللحم، وخَنِز (1).
روى الإمام أحمد، والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلا بَنُو إِسْرائِيْلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعامُ، وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا"(2).
هذا ما كان من اليهود.
وأمَّا النصارى فإنهم لمَّا أنزل الله تعالى المائدة عليهم كانت تنزل عليهم كل يوم، ثمَّ ترتفع بعد أن يكتفوا، وكان عليهم أن لا يخونوا ولا يدخروا، فلم يقوموا بذلك.
روى الترمذي -موقوفًا وصححه، ومرفوعًا وضعفه- عن عمار ابن ياسر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَتِ الْمائِدَةُ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، وَلا يَخُونُوا، فَخانُوا وادَّخَرُوا،
(1) انظر: "تفسير الطبري"(1/ 314)، و"تفسير الثعلبي"(4/ 43).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 315)، والبخاري (3218)، ومسلم (1470) واللفظ له.
وَدَفَعُو الِغَل"، فَمُسِحُوا قِرَدَةَ وَخَنازِيْرَ"(1).
واعلم أن الادخار لم يمنع منه في شريعتنا إلا لو كان على سبيل البخل والشح، أو على سبيل الاحتكار.
ثمَّ اللائق بمقام التوكل أن لا يدخر لنفسه شيئاً؛ فإن ادخر لعياله أو ليستريح من مشقة الاحتراف في كل يوم، ويتفرغ للعبادة، فلا يناقض التوكل.
نعم، ينبغي أن لا يزيد على قوت سنة؛ ففي "الصحيحين" عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعزل نفقة أهله سنة (2).
والحاصل أن التوكل هو الثقة بالله، وتعلق القلب به لا بالأسباب من حرفة، أو تجارة، أو جراية، أو قوت مدخر، أو مال، أو منفق.
فمن تعانى هذه الأسباب، ولم يعتمد بقلبه عليها لأنها قد تتعطل وتهلك، وتعرض لها الآفات، بل كلما كان اعتماده على الله تعالى وكان تعلقه بالأسباب استناناً وابتغاء فقد قام في مقام التوكل، وحافظ على السنة.
وقد قال الإمام الجليل أبو محمَّد سهل بن عبد الله التستَري رحمه الله تعالى: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في
(1) رواه الترمذي (3061) موقوفًا ومرفوعاً، وقال: لا نعلم للحديث المرفوع أصلًا.
(2)
رواه البخاري (5024)، ومسلم (1757).
التوكل فقد طعن في الإيمان (1).
وقال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23].
وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].
وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن عقبة بن أبي زينب قال: في التوراة مكتوب: لا تتوكل على ابن آدم؛ فإن ابن آدم ليس له قوام، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت (2).
وعن الوليد بن عمرو قال: بلغني أنه مكتوب في التوراة: ابن آدم! حركْ يدك أفتحْ لك بابًا من الرزق، وأطعني فيما أمرتك فما أعلَمَني بما يصلحك (3).
وقد بسطنا القول في التوكل، والاكتساب وآداب الكسب في "منبر التوحيد" بما لا مزيد عليه.
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(1289)، وعنده:"الاكتساب" بدل "الحركة".
(2)
ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 92).
(3)
ورواه الطبراني في "مكارم الأخلاق"(ص: 48) عن وهب بن منبه.