الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
210 - ومن أخلاق اليهود والنصارى: الرياء
.
وقد تقدم أنه محرم في سائر الملل.
قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 1 - 5].
نقل الثعلبي، وغيره عن ابن عباس في هذه الآية قال: وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له (1).
211 - ومنها: عدم الاستقامة على الأمر من الدين، والروغان عنه، والطغيان في النعمة
.
روى أبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" من طريق ابن جرس عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أتيتك بهدية من عند ربك لك ولأمتك؛ تقر بها عينك.
قال: "ما هِيَ؟ إِنَّكَ لتَسُرُّني فِيْهِمْ كَثِيْرًا".
قال: قالت اليهود: ربنا الله، ثمَّ لم يستقيموا حتى قالوا: يد الله
= "المعجم الكبير"(2281) عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه موقوفًا عليه.
ورواه ابن الأعرابي في "المعجم"(5/ 350)، والديلمي في "مسند الفردوس"(7204) مرفوعاً.
(1)
انظر: "تفسير البغوي"(4/ 514).
مغلولة، و: عزير ابن الله.
وقالت النصارى: ربنا الله، ثم لم يستقيموا حتى قالوا: عيسى ابن الله.
وقالت أمتك: {رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عليه، فلم يشوبوه بغيره، ولم يخلطوا به سواه؛ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} مما تقدمون عليه، {وَلَا تَحْزَنُوا} لما تخلفونه من دين أو عيال؛ فالله خليفتكم فيهم، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] بقول: لا إله إلا الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَقْرَرْتَ عَينْي يَا جِبْرِيْلُ".
قال: أقر الله عينك يا محمد.
وحقيقة الاستقامة: قول الحق والعمل به، والتنزه عن الباطل والعمل به، والدوام على ذلك إلى الموت.
قال أنس رضي الله تعالى عنه: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30]؛ قال: "قَدْ قَرَأَها ناسٌ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ قالَها حَتَّى يَمُوْتَ فَقَدِ اسْتَقامَ عَلَيْها". رواه الترمذي، والنسائي، وآخرون (1).
والمراد: من قالها قائمًا بحقوقها غير منحرف عن سبيلها؛ ألا
(1) رواه الترمذي (3250) وقال: حسن غريب، والنسائي في "السنن الكبرى"(11470).
ترى إلى قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]؟
قال قتادة رضي الله تعالى عنه: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستقيم على أمره، ولا يطغى في نعمته. رواه ابن أبي حاتم (1).
وروى الإمام أحمد، والبخاري في "تاريخه"، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن سفيان الثقفي رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله! مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدًا بعدك.
قال: "قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ".
قلت: فما أتقي؟
قال: "فَأَوْمَأَ إلَى لِسانِهِ".
وفي رواية: إن سفيان هو السائل (2).
وروى الأصبهاني في "الترغيب" عن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى: أنه سئل عن هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فقال: استقاموا عليه فعلًا كما أقرُّوا به قولًا.
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(6/ 2089).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 413)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 100)، ومسلم (38)، والترمذي (2410)، والنسائي في "السنن الكبرى"(11489)، وابن ماجه (3972).
ثم قال يحيى: كونوا عباد الله بأفعالكم كما زعمتم أنكم عبيد الله بأقوالكم (1).
ويؤيد قولَ يحيى بن معاذ قولُ عمر رضي الله تعالى عنه في الآية: ثم استقاموا بطاعته.
وفي رواية: ولم يروغوا -أي: عنها- روغان الثعالب. رواه الإمامان ابن المبارك، وأحمد؛ كلاهما في "الزهد"، وغيرهما (2).
وإنما اشترط في الاستقامة المذكورة في الآية الدوام عليها إلى الموت؛ لأن الإنسان قد يستقيم البُرهة من الزمان على الأمر، ثم يحول عنه كما في الحديث:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُها"(3).
وهذه الاستقامة هي المعنية في قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 16 - 17]؛ أي: لا راحة فيه.
قال عمر رضي الله عنه في قوله تعالى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} : حيث ما كان الماء
(1) انظر: "التذكرة في الوعظ" لابن الجوزي (ص: 96).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 110)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص: 115).
(3)
رواه البخاري (3154)، ومسلم (2643).
كان المال، وحيث كان المال كانت الفتنة. رواه عبد بن حميد (1).
وروى هو عن الحسن في الآية قال: يقول: لو استقاموا على طاعة الله وما أمروا به لأكثر الله لهم من الأموال حتى يفتتنوا بها.
ثم يقول الحسن: والله إن كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لكذلك كانوا سامعين له، مطيعين لله، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر، ففتنوا بها، فوثبوا بإمامهم فقتلوه (2).
وحقيقة الفتنة في الآية الابتلاء، كما فسرها به ابن عباس فيما رواه ابن جرير (3).
وحاصله أن العبد قد يستقيم على الطاعة فيوسَّع عليه ابتلاءً وامتحاناً، فإن بقي على استقامته إلى الموت ولم تبطره النعمة والسعة فقد سعد، ولكن إرغاد العيش هو الصفاء الزلال الذي لا يستقيم عليه إلا أقدام الرجال الأبطال؛ فإن الإنسان مجبول على الطغيان بالنعمة إلا من وقى الله وأعان.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]؟
(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال"(صى: 30)، والطبري في "التفسير"(29/ 115).
(2)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 305).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(29/ 114).
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "شَيَّبَتْنِي هُوْدٌ وَأَخَواتُها"(1) لاشتمالها على قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 112 - 113].
كما روى البيهقي في "الشعب" عن أبي علي السَّري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله! رُوي عنك أنك قلت: "شَيَّبَتْنِي هُودٌ".
قال: "نَعم".
قلت: ما الذي شيبك منه؛ قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟
قال: "لا، وَلَكِنْ قَوْلُهُ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] "(2).
وروى عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: أراد ناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلظ فيهم المقالة، ثم قال:"إِنَّما هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيْدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَأُولَئِكَ بَقاياهُمْ في الدِّيارِ والصَّوامِعِ، اعْبُدُوا الله وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَحُجُّوا، واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيْمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ".
قال: ونزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87](3).
(1) رواه الترمذي (3297) وحسنه، عن ابن عباس رضي الله عنه.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2439).
(3)
رواه عبد الرزاق في "التفسير"(1/ 192)، والطبري في "التفسير"(7/ 9).