الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
وإنما قدَّم الأموال في هذه الآية، وفي الآيات السَّابقة ونحوها لأن المال يشترك فيه عموم الناس في الميل إليه، ويكون سبباً في تحصيل الأهل والمال؛ إذ بالمال تحصِّل النساء بالبيع أو النكاح، والولد لا يحصل إلا بالحليلة زوجة أو أَمَة.
وأما قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] فإنه قدَّم النساء والبنين لأنَّ التلذذ بهما لذاتهما، أمَّا النِّساء فبالاستمتاع، وأما البنون فبوجودهم صغاراً وبالاشتغال بهم والاستعانة بهم كباراً، وأما التَّلذذ بالأموال فإنما هو من حيث التوصل بها إلى التلذذ بالنِّساء والبنين؛ فإن كثرة المال تضاعف التلذذ بالنساء والبنين؛ إذ أيهما وافقهما فيما يطلبانه منه كانوا أطوع له، وكلما كانوا أطوع له تضاعف تلذذه بهم.
ولما كان ما يحصل للعبد من الفتنة وعدم القربة وما هو مغرم به من التكاثر وعدم الإغناء المشار إليه بقوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [آل عمران: 10] في المال أبلغَ وأكثرَ منها في الأولاد قُدِّمَتِ الأموال.
-
العاشر: الحسد
.
فإنه حسد موسى على النبوة وهارون على الحبورة.
والحسد حرام، وهو من أفعال اليهود، بل سائر أهل الكتاب، ومنه قوله:{الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} من بني إسرائيل {يَالَيْتَ لَنَا
مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79].
وقد قيل: إن حسدهم كان غبطة، وهي مباحة.
وعلى الأول: فالمثل أطلق على العين، وقد يدل له:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص: 82].
وقوله: {لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ؛ أي: من المؤمنين والكافرين.
والبسط في الرزق وقدره قد يكون لخير يراد بالعبد، وقد يكون لشرٍ يراد به، فالبسط قد يكون بسبب طغيانه، والقدر قد يكون سببًا لزوال إيمانه، فاللائق بالعبد أن يرضى بقسمة الرَّب سبحانه وتعالى؛ فإن الله أعلم بما يصلح لعبده {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30].
وقال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54].
روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما قال: قال أهل الكتاب: زعم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة، وليس همَّه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54](1).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(5/ 139)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 978).
وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان رحمه الله تعالى قال: أعطي النَّبي صلى الله عليه وسلم بضعَ سبعين شابًا، فحسدته اليهود، فقال الله تعالى؛ {أَمْ يَحْسُدُونَ} الآية (1).
ومن هنا قيل: إن النِّكاح لا ينافي الزُّهد.
قال القرطبي: والمراد -يعني: بالآية- تكذيب اليهود والرَّد عليهم في قولهم: لو كان نبياً ما رغب في كثرة النِّساء، ولشغلته النُّبوة عن ذلك، فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان عليهما السلام، فوبخهم، فأقرت اليهود بأنه اجتمع عند سليمان عليه السلام ألف امرأة، فقال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم: ألف امرأة؟ قالوا: نعم، مئة مهرية، وتسعمئة سرية، وعند داود مئة، فقال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم: ألف عند رجل، ومئة عند رجل أكثر، أو تسع نسوة؟ فسكتوا، وكان له يومئذ تسع. انتهى (2).
وقيل: إن اليهود حسدوا النَّبي صلى الله عليه وسلم على النُّبوة، وحسدوا أصحابه على الإيمان به.
وروى الطَّبراني، وابن المنذر عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} قال: نحن النَّاس دون النَّاس؛ يعني: العرب، أو الصَّحابة (3).
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 979).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(5/ 252).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(11313). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 6): فيه يحيى الحماني وهو ضعيف.
وروى ابن جرير عن قتادة رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} قال: أولئك اليهود حسدوا هذا الحي من العرب على ما آتاهم الله من فضله، بعث الله تعالى نبياً منهم فحسدوهم على ذلك (1).
وعلى كل تأويل: فالآية قاضية على أهل الكتاب بالحسد.
وفي الصَّحيح قول عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: إن اليهود قوم حُسَّد (2).
وقد تقدم أن الحسد من عمل الشيطان، وهو أول من عصى الله تعالى به.
وروى أبو داود عن أبي هريرة، وابنُ ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحَسَدُ يَأكُلُ الحَسَناتِ كَمَا تَأكُلُ النّارُ الحَطَبَ"(3).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(5/ 138).
(2)
رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(574) عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اليهود قوم حسد، وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين".
(3)
رواه أبو داود (4903) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورواه ابن ماجه (4210)، وكذا الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(2/ 227) عن أنس رضي الله عنه.
قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء"(1/ 32): أبو داود من حديث أبي هريرة، وقال البخاري: لا يصح، وهو عند ابن ماجه من حديث أنس بإسناد ضعيف، وفي "تاريخ بغداد" بإسناد حسن.
وروى البيهقي في "الشُّعب" عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَجْتَمعُ في جَوْفِ أَحَدٍ الإِيْمانُ والْحَسَدُ"(1).
وروى الترمذي عن الزُّبير رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبَلَكُمُ: الْحَسَدُ والبَغْضَاءُ"(2). الحديث، وسيأتى بتمامه.
وأنشدوا: [من مجزوء الكامل]
اصْبِرْ عَلى حَسَدِ الْحَسُو
…
دِ فَإِنَّ صَبْرَكَ قاتِلُهْ
فالنّارُ تَأْكُلُ بَعْضَها
…
إِنْ لَمْ تَجِدْ ما تأْكُلُهْ (3)
وروى أبو نعيم في "الحلية" عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى! لا تحسد النَّاس على ما آتيتهم من فضلي ونعمتي؛ فإن الحاسد عدو لنعمتي، مضاد لقضائي، ساخط لقسمي الذي قسمته بين عبادي، ومن يك كذلك فليس مني ولست منه (4).
(1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 266)، وكذا النسائي (3109)، وابن حبَّان في "صحيحه"(4606).
(2)
رواه الترمذي (2510) وقال: قد اختلفوا في روايته، ورواه بعضهم عن مولى الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن الزبير.
(3)
انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (2/ 162)، و"تفسير القرطبي"(5/ 252).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(10/ 222).