الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد بعدما حرمتها عليه إلا عطشته يوم القيامة، ولا يدعها بعدما حرمتها عليه إلا سقيته إياها من حظيرة القدس (1).
وهذا الأثر، والذي قبله يدلان على تحريم الخمر في شريعة موسى وعيسى عليهما السلام كما يدلّ على تحريم الخنزير في شريعة عيسى عليه السلام.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد الزهد"، وابن عساكر عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: قال عيسى بن مريم عليهما السلام للحواريين: يا معشر الحواريين! لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير؛ فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها؛ فإن الحكمة خير من اللؤلؤ، ومن لا يريدها شر من الخنزير (2).
ألا ترى أنَّه عليه السلام جعل الخنزير شر الحيوانات، ثمَّ جعل المُعْرِض عن الحكمة شرًا منه؟
158 - ومنها: كل السُّحت
.
وهو أكل أموال الناس بالباطل؛ كالربا، والسرقة، والغصب،
(1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1196)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(10/ 222).
(2)
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "الزهد"(ص: 93)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(47/ 459).
والرشوة في الحكم، وأخذ القاضي ونحوه للهدية.
وهو بضم السين المهملة، مع إسكان الحاء المهملة، أو ضمها: الحرام، أو ما خبث من المكاسب، فلزم عنه العار.
وأسحت: اكتسبه.
وأسحت الشيء: استأصله.
ويقال: سحتٌ فيهما.
والمسحوت الجوف: من لا يشبع، ومن يتخم كثيرًا ضد؛ ذكر ذلك في "القاموس"(1).
وإنما سمي الحرام سحتًا لأنه يسحت آكله؛ أي: يستأصله بالعقوبة، أو لأنه يسحت جوف آكله فلا يشبع منه.
أفادنا شيخنا الشيخ أحمد العيثاوي رحمه الله تعالى: أن لقمة الحرام توسع الجوف لأخرى، ثمَّ الأخرى لأخرى، فلذلك لا ينتهي أخذه عنه حتى يموت.
وقلت في المعنى: [من المتقارب]
مَنِ اعتادَ أكلَ الحرامِ اتَّسَعْ
…
مِعاهُ فليسَ لهُ مِنْ شِبَعْ
فمن يترخَّص فِيه شَفًا
…
سيغْمِسُه في الكثيرِ الوَلَعْ
ولا ينتهي عنهُ حتَّى المماتِ
…
وانسدَّ عنه طريقُ الورَعْ
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 196)(مادة: سحت).
قال الله تعالى في اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42].
وقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63].
وقال الحسن رحمه الله تعالى: الربانيون علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود؛ كما نقله الثعلبي، وغيره (1).
وقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، ذمٌ عائد إلى الكل من العلماء وسائر أهل الكتاب، فالذم واقع على الفريقين العامة لسماع الكذب وأكل السحت، والعلماء لترك النهي عن ذلك.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما في القرآن أشد من هذه الآية. رواه ابن جرير (2).
وقال الضحاك بن مزاحم رحمه الله تعالى: ما في القرآن أخوف عندي من هذه الآية؛ أساء الثناء على الفريقين جميعًا. رواه الإمام عبد الله ابن المبارك في "الزهد"، والمفسرون (3).
وقال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 86)، و"تفسير القرطبي"(6/ 237).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(6/ 298).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 19)، والطبري في "التفسير"(6/ 298).
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 160، 161].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34].
وذكر الثعلبي عن الحسن قال: كان الحكام من بني إسرائيل إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه، فيريه إياها فينظر إليها، ويتكلم بحاجته فيسمع منه، ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، فلذلك وصفهم الله تعالى بقوله:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42](1).
وروى أبو داود، والترمذي وصححه هو وابن حبَّان، والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الرَّاشِيَ والْمُرْتَشِي (2).
ورواه الإمام أحمد، والبزار من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه؛ زاد "والرَّائِشَ"؛ يعني: الذي يمشي بينهما، كما فسر به في الحديث (3).
وصحح الحاكم نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (4).
نعم، يستثنى من يرتشي ليدفع عن دينه، أو ماله، أو بضعه، فقد رويت الرخصة فيه عن ابن مسعود، والحسن، ووهب بن منبه.
(1) انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 67)، و"تفسير البغوي"(2/ 39).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه الحاكم في "المستدرك"(7067)، ورواه الترمذي (1336) وصححه.
قال أبو الليث السمرقندي: وبه نأخذ (1).
قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت، وإن لم يُعزل بَطَلَ كلُّ حكمٍ حكمَ به بعد ذلك.
قال القرطبي: وهذا لا يجوز أن يختلف فيه؛ لأنَّ الرشوة منه فسق، والفاسق لا يجوز حكمه (2).
وروى الطبراني في "الكبير" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت (3).
وعنه بإسناد غريب جيد: أنَّه قال: السحت الرشوة في الدين (4)؛ قال سفيان: يعني: في الحكم (5).
وروى عبد الرزاق عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هَدَايَا الأُمَرَاءِ سُحْتٌ"(6).
(1) انظر: "تفسير السمرقندي"(1/ 415)، و"شرح صحيح البخاري" لابن البطال (6/ 609).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 183).
(3)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9100).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(9099).
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(14664).
(6)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(14665)، والطبراني في "المعجم "الأوسط" (4969). وحسن الهيثمي إسناد الطبراني في "مجمع الزوائد" (4/ 151)، وعندهما: "غلول" بدل "سحت".
وأخرجه الخطيب في "تلخيص المتشابه" من حديث أنس، ولفظه:"هَدَايَا العُمَّالِ سُحْتٌ"(1).
وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن قال: إذا كان لك على رجل دين، فما أكلت في بيته فهو السحت (2).
وهذا فيه تهويل لأمر الربا.
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه؛ وقال:"هُمْ سَوَاءٌ"(3).
وروى [الطبراني] في "الأوسط"، و"الصغير" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِباطِلٍ لِيُدْحِضَ بِهِ حَقًّا بَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنَ الرِّبَا فَهُوَ مِثْلُ ثَلاثٍ وَثَلاثِيْنَ زَنْيَةً، وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فالنَّارُ أَوْلَى بِهِ"(4).
وروى ابن مردويه، والديلمي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
(1) قال ابن الملقن في "البدر المنير"(9/ 576): رواه الخطيب البغدادي في "تلخيص المتشابه"، وفي الصحيحين بمعناه.
وكذا رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(15/ 17).
(2)
رواه الثعلبي في "التفسير"(4/ 67).
(3)
رواه مسلم (1598).
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(2944)، و"المعجم الصغير"(224).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سِتُّ خِصالٍ مِنَ السُّحْتِ: رشْوَةُ الإِمامِ، وَهِيَ أَخْبَثُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَثَمَنُ الكَلْبِ، وَعَسَبُ الفَحْلِ، وَمَهْرُ البَغِيِّ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، وَحُلْوَانُ الكاهِنِ"(1).
وقد رويت أحاديث في كسب الحجام، ولعل هذا كان أولًا ثمَّ نسخ، وصار مباحًا.
والحق أنَّه كسب طيب كما قال القرطبي، وغيره (2).
وقال الثعلبي: وقال عمر، وعلي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: السحت خمسة عشر: الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والقرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة، والمغنية، [والقايدة]، والساحر، وأجر صور التماثيل، [وهدية الشفاعة](3).
وروى المفسرون، والبيهقيُّ في "الشعب" عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمة، أو يرد عليه حقًّا، فأهدى له هدية فقبلها، فذلك السحت.
فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! إنا كنا نعد السحت الرشوة في الحكم.
(1) رواه الديلمي في "مسند الفردوس"(3486).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(6/ 184).
(3)
انظر: "تفسير الثعلبي"(4/ 67).
فقال: ذلك الكفر؛ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44](1).
وروى ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 41]، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي (2).
وروى ابن المنذر عن مسروق رحمه الله تعالى قال: قلت لعمر ابن الخطاب: أرأيت الرشوة في الحكم من السحت؟
قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاء ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة، فلا يقض حاجته حتى يهدي إليه هدية (3).
وقوله: ولكن كفر، وكذلك قول ابن مسعود: ذلك كفر؛ هو محمول على استحلال الرشوة.
وكلام عمر، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما نص في تحريم أخذ الهدية على الشفاعة، وبذل الجاه في دفع المظلمة، ورد الحق، وعليه ظاهر كلام الماوردي لأنَّ ذلك من فروض الكفايات (4).
(1) رواه الطبري في "التفسير"(6/ 240)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1134)، والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(10/ 139).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(6/ 251).
(3)
ورواه الطبراني في "الدعاء"(2106)، والجصاص في "أحكام القرآن"(4/ 85).
(4)
انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (16/ 288).
لكن نقل النوويّ في "فتاواه" عن القاضي، وغيره فيما لو حبس ظلمًا، فبذل مالًا لمن يتكلم في خلاصه -قائده أو غيره- جاز، وحمل ما نقلناه عن الماوردي على ما إذا شفع، ثمَّ بذل له مال، فأخذه؛ فإنَّه حرام لأنه عمل متبرعًا، فلا يستحق شيئًا (1).
لكن قول عمر رضي الله تعالى عنه: فلا يقضي حاجته حتى يهدي له هدية؛ يقتضي منع هذا الحمل.
قال ابن حجر المكي في "شرح الإرشاد": وتلخيصه: وإن كان فرض كفاية إلا أن الحاجة اقتضت المسامحة في أخذ عوض عليه لاضطرار الناس إليه، واطراد عزلهم لعدم السعي فيه إلا بمقابل.
قال: وبهذا يندفع قياسه على تولية القضاء، انتهى.
قلت: هذا التعليل في جواز الإعطاء، والجعل على ذلك ظاهر، واقتضاؤه لجواز الأخذ بعيد.
وإذا تقرر أن هذه الأمور التي أتينا عليها هنا داخلة في السحت، وثبت بنص القرآن العظيم أن اليهود والنصارى كانوا يأكلون السحت، فقد علم أن هذه الأمور كلها من أخلاقهم، وأنَّ مَنْ فَعَلها أو أكل مما يحصل منها فهو متشبه في ذلك باليهود والنصارى، ومن لم يتب من العلماء عن ذلك فهو متشبه بالربانيين والأحبار حين لم ينهوا عنها.
(1) انظر: "أسنى المطالب في شرح روضة الطالب" لزكريا الأنصاري (2/ 440).