الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. رواه البخاري (1).
قال قتادة: هذا الآيات نزلت في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة؛ أي: وقد خرجوا مهاجرين.
قال: وهذه الآيات العشر -أي: من أول سورة العنكبوت إلى ختام هذه الآية- مدنية. أخرجه ابن جرير (2).
وروى ابن أبي شيبة، والمفسرون عن مجاهد في قوله تعالى:{وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاءً من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة (3).
54 - ومنها: الفرح بالدنيا، والترح بإدبارها، والغضب لها، والغرام بها
.
وإذا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة فهي منبع النفاق.
(1) رواه البخاري (4465).
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(25/ 133).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(20/ 132)، ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(9/ 3037).
ألا ترى أن عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول حين أراد أهل المدينة أن يتوجوه ويملكوه عليهم، فأدركه الإِسلام وحال بينهم وبين ذلك، ثم هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلوا عليه، وأعرضوا عما همُّوا به من تتويج ابن أُبَيٍّ، كان ذلك داعياً لابن أُبَيٍّ إلى النفاق، وإضمار العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان قد أظهر الإِسلام لئلا يخرج عن قومه، ومنه أخذ المنافقون واقتدى به الأرذلون؟ قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة: 58].
وفي تغيير الخطاب إشارة إلى أن السخط خلقهم اللازم لهم، والرضا طارئ عليهم بسبب ما يعرض عليهم من العطاء، فإذا انقطع العطاء عنهم عادوا إلى مكرهم.
والآية نزلت في أبي الجواظ، وفي حرقوص بن زهير الملقب بذي الخويصرة، وهو رأس الخوارج، وكلاهما من المنافقين، قال كل منهما في قسمة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يعدل فيها، فبين الله سبحانه أن ذلك من القائل إنما نشأ لشدة انكلابه على الدنيا، وطمعه فيها، ورضاه لها، وسخطه لمنعها، فأدى ذلك به إلى وقوعه في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما هو كفر صريح، ولو أنه رضي بالله تعالى ورسوله، واكتفى بما قسمه الله له لأغناه الله تعالى كما قال عز وجل:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]؛ أي: لكان ذلك خيراً لهم، وأعود عليهم.
وهذه صفة المؤمنين إذا ابتلاهم الله تعالى بالفقر والبلاء صبروا، وإذا أعطاهم العافية والدنيا لم يركنوا إليها، ولم يغتروا بها كما قال الله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22، 23].
ومن العجائب أن المنافق في عمره كله بين غرة بمالة، وفرح بإقباله، وحزن لما فاته، واغتمام بإدباره عنه حتى يدركه الموت على ذلك، فإن أدركه على غمه فغم الموت انضم إلى غم الفوت، وإن أدركه على غرته فأَعْظِم بحسرته!
وما أحسن موعظةَ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذ كتب إلى يزيد بن عبد الملك: إياك إن تدركك المصرعة عند الغرة، فلا تقال العثرة، ولا تمكن من الرجعة، ولا يحمدك من خلفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به، والسلام. رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(1).
وروى فيه عن يزيد بن ميسرة قال: كان رجل ممن مضى جمع مالاً وولداً فأوعى، ثم أقبل على نفسه وهو في أهله قد جمع، فقال: أنعمي سنين! فأتاه ملك الموت عليه السلام فقرع الباب، فخرجوا إليه
(1) ورواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 6).
وهو متمثل بمسكين، فقال لهم: ادعوا لي صاحب الدار، فقالوا: يخرج سيدنا إلى مثلك؟ فودعوه، ثم مكث قليلاً، ثم عاد فقرع باب الدار، وصنع مثل ذلك، فقال: أخبروه أني ملك الموت، فلما سمع سيدهم قعد فزعاً، وقال: لينوا له بالكلام.
فقالوا: ما تريد غير سيدنا بارك الله فيك؟
قال: لا.
فدخل عليه فقال له: قم فأوص ما كنت موصياً؛ فإني قابضٌ نفسك قبل أن أخرج.
فصاح أهله وبكوا، ثم قال: افتحوا له الصناديق والتوابيت، وافتحوا أوعية المال، وافتحوا أوعية الذهب والفضة.
ففتحوا جميعًا، فأقبل إلى المال يلعنه ويسبه، ويقول: لعنت من مال، أنت الذي أنسيتني ربي تبارك وتعالى، وأغفلتني عن العمل لآخرتي حتى بلغني أجلي.
فتكلم المال فقال: لا تسبني! ألم تكن وضيعاً في أعين الناس فرفعتك؟ ألم ير عليك من أثري؟ وكنت تحضر سدد الملوك فتدخل، ويحضر عباد الله الصالحون فلا يدخلون؟ ألم تكن تخطب بنات الملوك والسادة فتنكح، ويخطب عباد الله الصالحون فلا ينكحون؟ ألم تكن تنفق في سبيل الخبيث فلا أتعاص ولو أنفقتني في سبيل الله لم أتعاص عليك؟ وأنت اليوم تلومني؟ إنما خلقت أنا وأنتم يا بني آدم من تراب، فمنطلق ببِرِّ ومنطلق بإثم.
ثم قال يزيد بن ميسرة: فهكذا يقول المال؛ فاحذروا (1)!
قلت: ولما كشفت هذه الحقيقة للعارفين بالله آثروا الحياة الباقية على الحياة الدنيا الفانية، فلم يطلبوا عزها، ولم يجزعوا لذلها، بل أمكنتهم فتركوها وتبرؤوا منها، وخطبتهم فَقَلُوها وأعرضوا عنها، فكانوا هم السابقين إلى نعيم الجنة، الظافرين بعظيم المنة.
وقد روى الإِمام أحمد في "الزهد" عن العباس بن سالم اللخمي قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سالم الخشني، فحمل إليه على البريد ليسأله عن الحوض، فقدم به عليه، فسأله فقال: سمعت ثوبان رضي الله تعالى عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ حَوْضِيَ مِنْ عَدَنٍ إِلَى عَمَّانَ الْبَلْقاءِ، ماؤُهُ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأكاويبُهُ عَدَدَ النُّجُومِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَها أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ وُرُوداً عَلَيْهِ فُقَراءُ الْمُهاجِرينَ".
فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: من هم يا رسول الله؟
قال: "هُمُ الشُّعْثُ رُؤُوساً، الدُّنْسُ ثِياباً، الَّذِينَ لا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعّماتِ، وَلا تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السُّدَدِ".
فقال عمر بن عبد العزيز: لقد نكحت المتنعمات؛ فاطمة بنت عبد الملك، وقد فتحت لي السدد إلا أن يرحمني الله عز وجل، لا جرم لا أدهن
(1) تقدم تخريجه.