الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمما عمل أنه صب على بيضة خَلًا حاذقًا كلما لانت وامتدت كالعلك أدخلها في قارورة ضيقة الرأس، وتركها حتى جفت ويبست، وعادت إلى حالها الأولى، فأخرجها إلى أصحابه وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى أنها آية، فآمن به في ذلك المجلس جماعة.
ووصل جناح طائر مقصوص من حيث لا يرون، فطار من ساعته.
وقال لهم في ليلة منكرة الرياح مظلمة: إن الملك ينزل إلي الليلة، والملائكة تطير، وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة، فمن كان منكم طاهرًا فليدخل منزله، فإن من تأمله اختطف بصره.
وقد اصطنع راية من رايات الصبيان التي ترسل يوم الريح بالخيوط، فلما كان في جوف الليل أرسلها، وقد علق فيها الجلاجل وجعل لها الأذناب والأجنحة، فلما سمعوا ذلك وراءه تصارخوا، وصاح بهم: من صرف بصره ودخل منزله فهو آمن، فأصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدَّفعِ عنه، لعنه الله.
74 - ومن أخلاقهم: الطيرة
.
وهي في الأصل زجر الطير، ثم قيل لكل من تشاءم: تطير.
وكانت العرب في الجاهلية تتيمن بالطائر السانح، وهو الذي يأتي من ناحية اليمين؛ أي: الذي يدل الشخص ميامنه، ويتشاءمون بالبارح، وهو الذي من ناحية الشمال؛ أي: الذي يوليه مياسره.
وكذلك الظباء إذا سنحت سانحة أو بارحة (1).
وكانوا يقولون: إذا برحت من لي بالسانح بعد البارح (2).
وكانوا إذا أراد أحدهم حاجة أتى الطائر في وَكْره فنفره، فإن أخذت ذات اليمين مضى لحاجته، وهذا هو السانح عندهم، وإن أخذت ذات الشمال رجع، وهذا هو البارح عندهم.
وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "أَقِرُّوا الطَّيْرَ عَلى مَكُناتِها"(3).
وكانوا يتطيرون بصوت الغراب ويتأولونه البين، وبصوت البوم ويتأولونه الخراب، وكانوا يستدلون بمجادبات الطيور بعضها بعضًا على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك (4).
وقد جاء الشرع بالنهي عن التطير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الطِّيَرَةُ شِرْكٌ" - ثلاثًا -. رواه أبو داود، وغيره، وصححه الترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (5).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثَلاثٌ لازِماتٌ لأُمَّتِي؛ سُوءُ الظَّنِّ، وَالْحَسَدُ، وَالطِّيَرَةُ". رواه أبو الشيخ في كتاب "التوبيخ"، والطبراني في "الكبير"
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(7/ 265).
(2)
انظر: "الأمثال" لأبي عبيد (ص: 46).
(3)
رواه أبو داود (2835) عن أم كُرز رضي الله عنها.
(4)
انظر: "تفسير القرطبي"(7/ 265).
(5)
تقدم تخريجه.
عن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه (1)؛ فهو إخبار عما جُبِل عليه طباع البشر الذين منهم أمته، لا أنه أقرهم على ذلك؛ بدليل تتمة هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"فَإِذا ظَنَنْتَ فَلا تُحَقِّقْ، وإِذا حَسَدْتَ فَلا تَبْغِ، وإِذا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ".
فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يجري على المرء من هذه الثلاث بمقتضى طباع البشرية، فلا يضره إلا إذا ذهب مع الظن حتى أنزله منزلة اليقين، واسترسل في الحسد حتى صار إلى البغي فيه، واعتقد أن له حقًا واستحقاقًا لتلك النعمة المحسود عليها، وأطاع الطيرة فوقف عندها، وامتنع من إمضاء ما تطير منه، فهذا هو الذي زجر عنه الشرع، ومنع منه الدين لأنه هو الذي يدخل تحت الاختيار.
وفي "صحيح مسلم" عن معاوية بن الحكم الأسلمي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله! منا رجال يتطيرون؟
قال: "ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ، فَلا يَضُرُّهُمْ"(2).
أي: ما لم يقفوا مع الطيرة، أما لو وقف أحد مع الطيرة حتى ترك ما هو فيه من الأمر أو رجع من سفره مثلًا فإن الطيرة تضره، وهي الشرك بعينه.
(1) رواه أبو الشيخ في "التوبيخ والتنبيه"(ص: 75)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3227).
(2)
تقدم تخريجه.