الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94].
قال ابن عباس في الآية: كانوا في الجاهلية إذا أحدث الرجل حدثاً، أو قتل، أو قتل صيداً وهو محرم أو بالحرم، ضرب ضرباً شديداً، وسلب ثيابه. رواه أبو الشيخ من طريق أبي صالح عنه (1).
وروى ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عنه: أنه كان يقول في قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]: أن يوسِّع بطنه وظهره جلداً، أو سلب ثيابه (2).
يريد: أن ذلك كان عقوبته في صدر الإسلام كما كان ذلك حكمه
في الجاهلية، ثم نسخ بالآية بعدها، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية.
كما قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: كان إذا ما أخذ شيئاً من الصيد أو قتله جلد مئة، ثم نزل الحكم بعدُ. أخرجه أبو الشيخ (3).
*
تنبِيهٌ:
مما يدل على عظيم حرمة الحرم والإحرام أن الله تعالى لم يرض
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 186).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1204).
(3)
انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (3/ 185).
في جزاء من قتل صيدهما إلا بحكم عدلين فيه، ثم ألحقت السنة الخطأ في ذلك بالعمد، وجرى الأمر على ذلك لئلا يستخف الناس في ذلك أو يتساهلوا فيه؛ كما روى الشافعي، وابن المنذر ذلك عن عطاء (1).
ورويا عن عمرو بن دينار رحمه الله تعالى قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ (2).
وروى المفسرون، والطبراني، والحاكم وصححه، عن قبيصة بن جابر رحمه الله تعالى قال: حججنا زمن عمر رضي الله تعالى عنه فرأينا ظبيًا، فقال أحدهما لصاحبه: أتراني أبلغه؟ فرمى بحجر فما أخطأ حشاه، فقتله، فأتينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فسألناه عن ذلك، فإذا إلى جنبه رجل - يعني: عبد الرحمن بن عوف - فالتفت إليه فكلمه، ثم أقبل على صاحبنا، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟
قال الرجل: تعمدت رميه وما أردت قتله.
قال عمر: ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ؛ اعمد إلى شاة فاذبحها، وتصدق بلحمها، وأسق إهابها؛ يعني: ادفعه إلى مسكين يجعله سقاء.
قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! أَعْظِمْ شعائر الله، والله ما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى شاور صاحبه؛ اعمد
(1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 183).
(2)
رواه الشافعي في "المسند"(ص: 133).
إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك.
قال قبيصة: وما أذكر الآية في سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
قال: فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه مقالتي فلم يفجأ إلا ومعه الدَّرَّةَ، فعلا صاحبي ضرباً بها، وهو يقول: أقتلت الصيد في الحرم وسفَّهت الفتيا؟ ثم أقبل عليَّ فضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك مني شيئاً مما حرم الله عليك؟
قال: يا قبيصة! إني أراك شاباً حديث السن، فصيح اللسان، فسيح الصدر، وإنه قد يكون في الوجل تسعة أخلاق صالحة وخلق سيئ، يتغلب خلقه السيئ أخلاقه الصالحة، فإياك وعثراتِ الشباب (1).
قلت: ما فعل عمر رضي الله تعالى عنه - وقد صح الأمر بالاقتداء [به و] بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما - دليلٌ على أنه يعزَّر على الذنب الذي لا حد فيه، وأنه قد يجتمع التعزير والكفارة، وأن من أفتي بحكم شرعي ولم يرض به يعزر، وأن من اعترض من هو أعلم منه بغير وجه أو بمجرد الرأي يعزر، وكذلك من دعا مستفتياً أرشده المفتي إلى شيء إلى مخالفته ولو بما هو أحوط منه رأيًا يؤدب، وأن الشباب ينبغي أن يتحفظ
(1) رواه الطبري في "التفسير"(7/ 48)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1206)، والطبراني في "المعجم الكبير"(258)، والحاكم في "المستدرك "(5355).