الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(14) باب النهي عن التشبه بالمنافقين
(14)
باب النهي عن التشبه بالمنافقين
اعلم أن النفاق على قسمين:
- اعتقادي: وهو إبطان الكفر وإظهار الإِسلام، وهو أشد أنواع الكفر، ولذلك قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وهذا يخلد صاحبه في النار.
- وعملي: بأن يعتقد اعتقاد المسلمين، ويعمل أعمال المنافقين، وهو من أشد المعاصي وأكبر الذنوب.
وسمي النفاق نفاقاً لأن المنافق يستر كفره أو فجوره، فأشبه الداخل في النفق، وهو السِّرب يستتر فيه، أو أشبه المنافق باليربوع، له جُحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء، فإذا طلب من القاصعاء خرج من النافقاء، وكذلك المنافق يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل منه فيه (1).
وأول من عرف بالنفاق من بني آدم كنعان بن نوح كما تقدم.
(1) انظر: "غريب الحديث" لابن سلام (3/ 13).
وأول من عرف بالنفاق من هذه الأمة: عبدُ الله بن أبي ابنُ سلول.
ولم يكن قبل الهجرة نفاق ولا بعدها حتى كانت وقعة بدر العظمى، وأعلى الله كلمته، وأظهر الإِسلام وأعز أهله، قام عبد الله بن أبي، وكان رأساً في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين الخزرج والأوس في الجاهلية، وكانوا قد عزموا أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخبر، فأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإِسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد توجه، فأظهر الدخول في الإِسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته، وآخرون من اليهود، ومن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ولذلك لم تذكر صفات المنافقين إلا في السور المدنية، وكل آية نزلت في المنافقين فهي بعد غزاة بدر.
واعلم أن من تشبه بالمنافقين في الاعتقاد كأن شك في شيء مما جاء به محمَّد صلى الله عليه وسلم، أو أنكر شيئًا منه، وتلبس بأقوال الإِسلام وأعماله ظاهراً تقية، وخوفاً على دمه أو ماله، فهذا منافق حقيقة، وهو كافر مخلد في الدرك الأسفل من النار إذا مات؛ والعياذ بالله على ذلك.
وقد سئل حذيفة رضي الله عنه: من المنافق؟
قال: الذي يصف الإِسلام ولا يعمل به.
رواه ابن أبي شيبة (1).
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37415).
وروى الإِمام أحمد في "الزهد" عن الحسن رحمه الله تعالى قال: ما صدَّقَ أحدٌ بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى يتجهم عليها (1).
وأما من تشبه بالمنافقين في الأخلاق، أو الأعمال، أو الأحوال مع صحة الاعتقاد والتصديق، فهذا لا نحكم عليه بالكفر، ولا يستوجب الخلود في النار، لكنه عرض نفسه لأن يحشر معهم، ويكون في زمرتهم، وربما كان هذا مستجراً لهم إلى اعتقادهم.
روى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضاً حتى يبيض القلب كله.
والنفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، كما ازداد النفاق ازدادت سواداً حتى يسود القلب كله.
والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود (2).
وروى الإِمام أحمد، والطبراني عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْقُلُوبُ أَرْبَعةٌ، قَلْبٌ أجردٌ وَفِيهِ سِراجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَسْودُ مَنْكُوسٌ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكافِرِ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبوطٌ عَلى غِلافِهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنافِقِ، وَقَلْبٌ
(1) رواه الإِمام أحمد في "الزهد"(ص: 265).
(2)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(30321).
مُصفحٌ فِيهِ إِيْمان وَنفاقٌ، فَمَثَلُ الإِيْمانِ فِيْهِ مَثَلُ الْبَقْلَةِ يَمُدُّها الْماءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفاقِ فِيهِ مَثَلُ الْقَرْحَةِ فِيهِ يَمُدُّها الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ، فَأَيُّ الْمادَّتَينِ غَلَبَتْ عَلَيهِ ذَهَبَتْ بهِ" (1).
وهذا الحديث يدل على أن من النفاق ما لا يخرج من الإيمان، وهو ما لا يكون في الاعتقاد والتصديق، ولكن مهما لم يكن واعظ القلب مساعداً للإيمان، فربما غلبه النفاق فذهب بالقلب.
فمن ثم كان التشبه بالمنافقين شديد القبح، عظيم الخطر.
وقد قال الله تعالى في النهي عن التشبه بالمنافقين خاصة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].
قال مجاهد: هذا قول عبد الله بن أبي، والمنافقين (2).
وقال في قوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]: يحزنهم قولهم لا ينفعهم شيئًا.
رواهما ابن جرير، وابن أبي حاتم (3).
(1) رواه الإِمام أحمد في "المسند"(3/ 17)، والطبراني في "المعجم الصغير" (1075). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 63): رواه الإِمام أحمد والطبراني في "الصغير"، وفي إسناده ليث بن أبي سليم.
(2)
رواه الطبري في "التفسير"(4/ 146)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 799).
(3)
رواه الطبري في "التفسير"(4/ 148)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(3/ 799).