الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَقَامُ الثَّانِي فِي النَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بغَيْرِ المُبْتَدِعَةِ مِن الفَسَقَةِ
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19].
نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالفاسقين إشارة إلى أن الإيمان لا يكمل إِلَّا بالتقوى، والتنزه عن الفسق.
وروي عن محمّد بن النضر الحارثي رحمه الله تعالى - مرسلًا - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإِيْمانُ عَفِيفٌ عَنِ الْمَحارِمِ، عَفِيفٌ عَنِ الْمَطامعِ"(1).
قال سفيان في الآية: نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم.
وقال مقاتل: {نَسُوا اللَّهَ} : تركوا أمره.
{فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]: أن يعملوا خيرًا.
بل قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: نسوا الله عند
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 224).
الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة. نقل ذلك القرطبي، وغيره (1).
وقول سهل من أحسن التفاسير، ويدلُّ عليه قول تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، لأنّ الفسق لا يدوم مع التوبة.
والمعنى: إنَّ من نسي الله تعالى عند ارتكاب الذنب فلم يذكر عظمته، بل عصاه غير خائف منه، ولا مستحي من اطلاعه عليه، ولم يعقب معصيته ندمه عليها، فربما كان ذلك سببًا لمنعه عن التوبة، فيحق عليه اسم الفسق، بخلاف من أتبع الذنب بالندم والخوف والحزن؛ فإن حسنته تذهب سيئته، فلا يحق عليه اسم الفسق.
وروى الإمام أحمد، والنسائي، والطبراني، والبيهقي عن حذيفة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ بلُحُونِ العَرَبِ وَأَصْواتِها، وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونَ أَهْلِ الْكِتابَيْنِ، وَأَهْلِ الْفِسْقِ؛ فَإِنَّهُ سَيَجِيْءُ بَعْدِيَ قَومٌ يُرَجِّعُونَ بِالْقُرآنِ تَرْجِيعَ الْغِناءِ وَالرَّهْبانِيَّةِ وَالنَّوْحِ، لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، مَفْتُونةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ يُعْجِبُهُمْ شَأْنهمْ"(2).
هذا الحديث يدلُّ على النّهي عن التشبه بأهل الفسق في ظاهر أعمالهم -وإن لم يكن المتشبه بهم على مثل قلوبهم- فإن التشبه بهم في بعض الأعمال قد يفضي بالمتشبه إلى التشبه بهم في التوغل في
(1) انظر: "تفسير القرطبي"(18/ 43).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7223)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2649).
الفسق، ونسيان عظمة الله تعالى عند المعصية، فإذًا التشبه بهم منهي على كلّ حال.
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108].
فالمتشبه بالفاسق متعرض لحرمان الهداية من الله تعالى، وأي مصيبة وراء هذه المصيبة؟ {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
قوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]؛ أي: خرج عنه فلم يمتثل أمره، ولم يطعه فيه، فالشيطان أول من فسق، وكل فاسق فالشيطان إمامه وقدوته.
وقال قطرب: في الكلام حذف، والتقدير: ففسق عن [رد] أمر ربه؛ أي: بسبب رده أمر الله تعالى (1).
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف: 50]، بعد أن علمتم بفسقه وفسق ذريته، والحال أنّهم أعداء لكم؟ فإذا كان الذم واقفًا على موالاة الفاسق فكيف بمتابعته في الفسق، وتشبهه به فيه؟
وقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50]، لم يقل: لهم،
(1) انظر: "معاني القرآن" للنحاس (4/ 255).
بل وضع الظّاهر موضع المضمر، ووصفهم بالظلم إشارة إلى تعليل ذمهم بالظلم، وهو موالاة الفاسق مع عداوته، وليس ذلك تركيبًا للعلّة، بل الفاسق لا ينبغي أن يوالى مع فسقه ولو كان صديقًا، فكيف يوالى وهو عدو؟
وروى ابن مردويه عن كثير بن عطية، عن رجل، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: "اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لِفاجرٍ وَلا فاسِقٍ عِنْدِيَ يَدًا وَلا نِعْمَةً، فَيَوَدَّهُ قَلْبِي"(1).
سأل ربه عز وجل أن يجنبه نعمة الفاسق لئلا تؤدي به إلى أن يكون له في قلبه ميل إليه ومودة له؛ إذ القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها كما تقدّم في أول الكتاب، ثمّ الحب والمودة قد تؤدي إلى التشبه بالمودود.
وقال سفيان الثّوريّ رحمه الله تعالى: إنِّي لألقى الرَّجل أبغضه، فيقول لي: كيف أصبحت؟ فيلين له قلبي، فكيف ممّن أكل ثريدهم ووطئ بساطهم؟ رواه أبو نعيم (2).
فيتعين على العبد تجنب الفاسقين، والتباعد عنهم بقدر الإمكان، وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره (3).
(1) تقدّم تخريجه.
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 17).
(3)
انظر: "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (2/ 363).
ثمّ الفسق في اللُّغة: الخروج عن الشيء.
وحقيقته في الشّرع كما قال القاضي أبو الحسن الماوردي: فيمن يكون مسخوط الدِّين والطريقة لخروجه عن الاعتدال، ولذلك كانت العدالة مقابلة للفسق، والعَدْل مَنْ كان مرضي الدِّين والمروءة (1).
ويتحقق فسق العبد بارتكابه لكبيرة، أو إصراره على صغيرة، أو غلبة الصغائر عليه.
وهل الإخلال بالمروءة يخل بالعدالة أم لا يخل بها ولكنه يخل بقبول الشّهادة؟
قولان، وبالثّاني جزم القرطبي، والنووي في كتب الفقه.
وبالأول أخذ الأصوليون، وغيرهم، وهو الّذي جزم به القرطبي في "تفسيره"(2).
وعليه: فالإخلال داخل في مسمى الفسق.
وقد اختلف أصحابنا في تعاطي ما يخل بالمروءة، هل يحرم أم لا؟ على ثلاثة أوجه، ثالثها: يحرم أن تحمل شهادته.
ولما كان كتابنا هذا موضوعه على التنزه من الرذائل كلها، ناسب أن ندخل في الفسق الإخلال بالمروءة ليكون ذلك داخلًا في النّهي عن
(1) انظر: "الحاوي الكبير" للماوردي (17/ 149).
(2)
انظر: "المستصفى" للغزالي (ص: 125)، و"تفسير القرطبي"(12/ 179 - 181)، و"روضة الطالبين" للنووي (11/ 230).
التشبه بالفساق، وليكون الكتاب جامعًا للنهي عن كلّ ما ليس مستحسنًا في الشّرع.
على أن من يقول بإباحة تعاطي ما يخل بالمروءة لا يسعه أن يقول: إنّه غير مكروه، ولا خلاف الأولى، وهما داخلان في قسم المنهي عنه، على أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بمرتكبهما، وذلك فيما رواه الإمام أحمد، والشيخان، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانِ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيامَ اللَّيْلِ"(1).
وذكر الغزالي في "الإحياء": أن المباح يصير بالمواظبة عليه صغيرةً؛ كالشطرنج، والترنم بالغناء على الدوام (2).
وأراد بالمباح بعض أقسامه، وهو المكروه وخلاف الأولى بدليل التمثيل، ولأن من المباح ما لا يتأتى فيه ما ذكر قطعًا كالأكل، والنكاح.
فإذًا لتشبه بالفساق يحصل بأحد ثلاثة أمور:
الأول: ارتكاب كبيرة.
الثّاني: الإصرار على صغيرة، أو غلبة الصغائر.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 170)، والبخاري (1101)، ومسلم (1159)، والنسائي (1763)، وابن ماجه (1331).
(2)
انظر: "إحياء علوم الدِّين" للغزالي (4/ 22).
الثّالث: الإخلال بالمروءة إذا اتخذه ديدنًا أو عادة، وهو داخل فيما قبله على أحد الأقوال.
فتعين أن نشير إلى الكبائر، والصغائر، وما يخل بالمروءة، وذلك في ثلاثة فصول.