الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأوَّلُ
اختلف العلماء في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر، فقال بعضهم: لا صغيرة، والذنوب كلها كبائر من حيث النظر إلى عظمة من يعصى بها، ويخالف أمره.
روى أبو نعيم بسند ضعيف، عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تَنْظُرُوا إِلَى صَغِيرِ الذُّنُوبِ، وَلَكِنِ انْظُرُوا إِلَى مَنِ اجْتَرَأْتُمْ".
قال أبو نعيم: وهو مشهور من قول بلال بن سعد (1).
والأصح أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر.
الكبائر: لا يكفرها إِلَّا التوبة، وبعض الطاعات المخصوصة كالهجرة، والحج.
والصغائر: تكفرها الطاعات، واجتناب الكبائر.
(1) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (6/ 78). قال ابن عدي في "الكامل"(6/ 168): منكر.
قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].
وقال تعالى: {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضانُ إِلَى رَمَضانَ مُكَفِّراتٌ لِما بَيْنَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الْكَبائِرُ"(1).
وروى مسلم عن عمرو بن سعيد بن العاص قال: كنت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه، فدعا بطهور ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبةٌ، فَيُحْسِنُ طُهُورَها وَخُشُوعَها إِلَّا كانَ كَفَّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يَأْتِ كَبِيرةً"(2).
وأنشد الحافظ ابن حجر العسقلاني في عقب إملائه هذا الحديث لنفسه: [من الرمل]
أَحْسِنِ التَّطْهِيرَ وَاخْشَعْ قانِتًا
…
مُطْمَئِنًّا فِي جَمِيعِ الرَّكَعاتِ
فَهْيَ كَفَّارَةُ ما قَدَّمْتَهُ
…
مِنْ صَغِيرِ الذَّنْبِ إِنَّ الْحَسَناتِ
وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، عن
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 400)، ومسلم (233)، والترمذي.
(2)
رواه مسلم (228).
أبي ذر رضي الله تعالى عنه، والإمامُ أحمد، والترمذي، والبيهقي في "السنن" عن معاذ، وابنُ عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقِ اللهَ ما اسْتَطَعْتَ، وَأتبعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُها، وَخالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"(1).
وأنشد شيخ الإسلام والدي رحمه الله تعالى عقب إملائه لهذا الحديث نفسه: [من الرمل]
اتَّقِ اللهَ تَعالَى ما اسْتَطَعْـ
…
ـتَ وَأتبعْ سَيِّئاتٍ حَسَنَة
خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ
…
ذَا الْحَدِيثُ التِّرْمِذِيْ قَدْ حَسَّنَه
وقلت في عقده: [من الرمل]
خالِقِ النَّاسَ بِخُلْقٍ حَسَنٍ
…
ثُمَّ أتبعْ سَيِّئًا بِالْحَسَنِ
وَاتَّقِ اللهَ تَعالَى ما اسْتَطَعْـ
…
ـتَ رَواهُ التِّرْمِذِيْ فِي السُّنَنِ
وروى أبو يعلى - ورجاله رجال الصحيح - عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنّه قال: يا رسول الله! علمني شيئًا يقربني من الجنَّة، ويباعدني من النّار.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 153)، والترمذي (1987) وصححه، والحاكم في "المستدرك"(178) عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه.
والإمام أحمد في "المسند"(5/ 236)، والترمذي (1987)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8525) عن معاذ رضي الله عنه.
وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(61/ 314) عن أنس رضي الله عنه.
قال: "إِذا عَمِلْتَ سَتئَةً فَأَتْبِعْها حَسَنَةً".
قال: قلت: أَمِنَ الحسنات لا إله إِلَّا الله؟
قال: "هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَناتِ"(1).
وقلت في معناه: [من السريع]
إِذا أَصَبْتَ الذَّنْبَ فَفِي عُقْباهُ
…
أَحْسِنْ عَمَلًا عَساهُ أَنْ يُمْحاهُ
وَالذِّكْرُ أَجَلُّ كُلِّ ما تُحْسِنُهُ
…
وَالأَحْسَنُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ
والأحاديث في ذلك كثيرة.
ثمّ اختلفوا في ضبط الكبيرة، فمنهم من ضبطها بالحد، فقيل: ما ورد عليه بخصوصه توعد شديد.
وقيل: ما وجب على فاعله حد (2).
واختار الوالد الجمع بين القولين.
وقيل: ما عظم ضرره في الوجود.
وجمع القرطبي بينه وبين الأوّل، فقال: كلّ ذنب عظَّم الشّرع التوعد فيه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود فهو كبيرة (3).
(1) رواه أبو يعلى كما في "الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص: 129) وقال: هذا حديث حسن.
وكذا الطبراني في "الدعاء"(ص: 439)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 218).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 84).
(3)
انظر: "تفسير القرطبي"(5/ 160).
ووراء ذلك أقوال أخر، وما ذكرناه أقرب الأقوال إلى الصواب.
ومنهم من ضبطها بالعد، فقيل: هي أربع، وقيل: سبع.
وقال ابن عبّاس: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
وفي رواية: هي إلى السبعمئة أقرب. رواه ابن جرير (1).
قال العلماء: وذلك باعتبار كثرة أنواعها وأصنافها.
وبلغ بها الوالد رحمه الله تعالى أكثر من مئة، وهو حاصل ما ذكره أصحابنا الشّافعيّة رحمهم الله تعالى، وهي بعد الشرك بالله تعالى:
1 -
قتل النفس بغير حق؛ ولو نفس القاتل.
2 -
وقطع عضو من نفسه أو غيره إِلَّا بحكم الشّرع.
3 -
وإتلاف منفعة العضو.
4 -
والزنا.
5 -
واللواط.
6 -
وشرب الخَمْرِ وسائر المسكرات.
7 -
والسرقة.
8 -
والغصب.
9 -
والقمار.
(1) رواه الطّبري في "التفسير"(5/ 41).
10 -
والرشوة.
11 -
والربا.
12 -
وأكل مال اليتيم.
13 -
والخيانة في الكَيل والميزان، ونحوهما.
14 -
والمُكْس.
15 -
وشهادة الزور.
16 -
وكتم الشَّهادة المتعينة ما لم يخش ضررًا.
17 -
واليمين الغَموس.
18 -
وعقوق الوالدين.
19 -
وقطيعة الرّحم.
20 -
وترك الصّلاة.
21 -
والصلاة مع الحدث.
22 -
وتقديمها وتأخيرها بلا عذر.
23 -
وترك الجمعة ممّن تعينت عليه.
24 -
ومنع الزَّكاة.
25 -
وتأخير الحجِّ مع الاستطاعة وخوف العضب؛ على أن من مات بعد تمكنه من الحجِّ سنين تبين بعد موته أو عضبه فَسقَ في السنة الأخيرة.
ومن قال بأن وجوب الحجِّ على الفور يحكم بالفسق بمجرد
التأخير مع الاستطاعة، فيكون كبيرة.
26 -
وكذلك إفساده - ولو كان تطوعًا - بالجماع قبل التحللين.
27 -
والفطر في رمضان بغير عذر.
28 -
والفرار من الزحف.
29 -
والأمن من مكر الله.
30 -
واليأس من رحمة الله تعالى.
31 -
والكذب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
32 -
وسب الصّحابة؛ ولو واحدًا منهم.
33 -
واستحلال اللعنة.
34 -
وإيذاء أولياء الله تعالى؛ ولو واحدًا.
35 -
وترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ما لم يخش ضررًا.
36 -
ونسيان القرآن بعد حفظه.
37 -
والوقيعة في أهل القرآن وأهل العلم.
38 -
والتسبب في شتم الأبوين.
39 -
والرياء.
40 -
والمَن.
41 -
والابتداع في الدِّين.
42 -
والدعوة إلى البدعة.
34 -
والتكبر.
44 -
والإسبال خيلاءَ؛ بل الاحتياط مطلقًا.
45 -
والحسد.
46 -
والحقد.
47 -
والغِل.
48 -
وسوء الظن بالله تعالى.
49 -
وإيقاع الفتنة بين المسلمين.
50 -
ودلهم أعداءهم على عوراتهم.
51 -
والإشارة إلى مسلم بسلاح ونحوه؛ بل ترويعه مطلقًا لغير تعزير مطلقًا.
52 -
وقذف المحصنات.
53 -
والسحر، والكهانة، وطلبهما، والسِّعاية.
54 -
وضرب المسلم بغير حق.
55 -
وقتل ما لا يضر من الحيوانات كالهرة.
56 -
وحرق الحيوان.
57 -
والغُلول.
58 -
وقطع الطريق.
59 -
والنميمة.
60 -
وأكل الميِّتة، والدم المسفوح، والخنزير إِلَّا المضطر.
61 -
والوطء في الحيض.
62 -
وإتيان البهيمة.
63 -
والظهار.
64 -
والسحاق.
65 -
والدياثة و [
…
] (1)
66 -
والتحليل.
67 -
واللعب بالنرد.
68 -
وتصوير الحيوانات.
69 -
والانتساب إلى غير الآباء، أو إلى غير الموالي.
75 -
وبيع الحر، وأكل ثمنه.
71 -
ومهر البغي.
72 -
وحُلوان الكاهن.
73 -
وثمن الخَمْرِ.
74 -
وثمن الكلب.
75 -
ومنع فضل الماء عن المحتاجين وأبناء السبيل.
76 -
والخروج على الإمام؛ ولو جائرًا.
(1) بياض في "أ" و"ت" بمقدار كلمة.
77 -
والإضرار في الوصيَّة.
78 -
ووسم وجوه الحيوان.
79 -
وتغيير منار الأرض.
80 -
وتخبيث العبد على سيده، والزوجة على بعلها، والابن على أبيه أو أمه.
81 -
والمِراء.
82 -
والتلدُّد في الخصومات مع كثرتها.
83 -
وتشبه الرَّجل بالمرأة، والمرأة بالرجل.
ويقال للأول: تخنيث، وتخنث، وللثاني: ترجل.
84 -
وكفران النعمة.
85 -
وجحد الحق.
86 -
والبغي.
87 -
والعشق.
88 -
والغدر.
89 -
والمكر.
90 -
والخديعة إِلَّا في الحرب، أو في استخلاص الحق.
91 -
وتعلم العلم للدنيا.
92 -
وكتمان العلم عن السائل عنه إذا تعين الإظهار، ولم يخش ضررًا.
93 -
واعتياد أن لا يستبرئ من البول والغائط.
94 -
والإصرار على صغيرة.
95 -
والاستكثار من الكبائر.
96 -
والاستهانة بالذنب، والتجاهر به، والتبجح والافتخار به، والسرور به.
وبهذه الأمور تصير الصغيرة كبيرة كما نصّ عليه حجة الإسلام في "الإحياء"(1).
وكذلك نصّ عنه أنّها تفسير كبيرة بكون الآتي بها عالمًا يقتدى به، ومحل ذلك أن يأتي العالم بالمعصية في ملأ بحيث لا يأمن أن تحكى عنه، وهو ظاهر وجيه.
روى أبو نعيم - وقال: صحيح - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ شِرارِ أُمَّتِي الْمُجاهِرِينَ".
قيل: يا رسول الله! وما المجاهرون؟ قال: "الَّذِي يُذْنِبُ بِاللَّيْلِ فَيَسْتُرُ اللهُ عَلَيهِ، فَيُصْبحُ، فَيُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذا وَكَذا، فَيَهْتِكُ سِتْرَ اللهِ عَلَيهِ"(2).
وروى الدينوري عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
(1) انظر: "إحياء علوم الدِّين" للغزالي (4/ 32).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(2/ 197).
قال: من أعظم الذنب أن يستخف الرَّجل بذنبه (1).
وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنّه سئل: من أعظم النَّاس ذنبًا؟ قال: أعظم النَّاس ذنبًا أن يستخف المرء بذنبه (2).
وعن العوَّام بن حوشب أنّه قال: الابتهار بالذنب أعظم من ركوبه.
قال ابن قتيبة: هو أن يقول الرَّجل: زنيت ولم يزن، وقتلت ولم يفعل؛ يتبجح بذلك ويفتخر به.
يقول: فذاك أشد على الرَّجل من ركوبه لأنّه لم يدعه على نفسه إِلَّا وهو لو قدر عليه لفعل، فهو كفاعله بالنية، وزاد على ذلك بهتكه ستر نفسه، وقحته وقلة مبالاته به.
قال: ويقال: ابتهر الشاعر الجارية إذا قال: زنيت بها، ولم يفعل (3).
وروى الطبراني في "الكبير" عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَخافُ عَلى أُمَّتِي ثَلاثًا: زَلَّةَ عالِمٍ، وَجِدالَ مُنافِقٍ بِالقُرْآنِ، وَالتَّكْذِيبَ بِالقَدَرِ"(4).
(1) رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 235).
(2)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 499).
(3)
رواه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(ص: 521).
(4)
رواه الطبراني في "مسند الشاميين"(2220). قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 203): فيه معاوية بن يعمرو الصدفي، وهو ضعيف.
وروى عبد الله بن المبارك في "الزهد" عن عبد الله بن أبي جعفر رحمه الله تعالى قال: قيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله وكلمته! من أشد النَّاس فتنة؟
قال: زلة عالِم؛ إذا زل زل بزلته عالَم كثير (1).
وعن عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه قال: يهدم الإيمان ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون (2).
وقد قيل: [من الرمل]
زَلَّةُ العالِمِ مُسْتَعْظَمَةٌ
…
إِذْ بِها أَصْبَحَ فِي النَّاسِ مَثَل
وروى الدرامي عن هرم بن حيان رحمه الله تعالى أنّه قال: إياكم والعالم الفاسق.
فبلغ عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: وأشفق منها في العالم الفاسق.
قال: فكتب إليه هرم: يا أمير المؤمنين! والله ما أردت إِلَّا الخير؛ يكون إمام يتكلم بالعلّم، ويعمل بالفسق، فيشبه على النَّاس، فيضلوا (3).
وروى أبو نعيم عن موسى بن أعين قال: قال لي الأوزاعي رحمه
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 520).
(2)
رواه ابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 110).
(3)
رواه الدارمي في "السنن"(300).