الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
464 -
حدثني محمد بن يحيى المروزي: "أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا، فلما بلغ أصابته آفة فذهبت به فاشتدّ ذلك عليهم، حتى رؤي فيهم، فخرجت أعرابية منهم فقالت: "ما لي أراكم متغيّرة ألوانكم، ميّتة قلوبكم، هو ربنا فليفعل بنا ما يشاء، فرزقنا عليه، يأتي به من حيث يشاء ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية
…
صمّاء ملمومة ملس نواحيها
رزقٌ لنفس براها اللَّه لانفَلَقَتْ
…
حتى تؤدّي إليه كل ما فيها
أو كان بين أطباق السبع مسلكها
…
لسهل اللَّه في المرقى مراقيها
حتى تنال الذي في اللوح المحفوظ خط لها
…
فإن أتته وإلا سوف يأتيها
(1)
465 -
حدثني الحسين بن عبد الرحمن، عن محمد بن مقاتل العباداني أنه أنشد هذه الأبيات لبعض السلف:
إذا يقدر لك الرحمن رزقا
…
يُعدّ لرزقه المقضيِّ بابا
وإن يحرمك لم تستطع بحول
…
ولا رأي الرجال له اكتسابا
فاقصر في خطاك فليس تعدو
…
بحيلتك القضاء ولا الكتابا
(2)
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة إثبات المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي الكتابة، وذلك أن اللَّه كتب ما علمه من أحوال الخلق جميعا، وقد
(1)
شيخ المصنف ثقة التقريب (6429)، القناعة والتعفف (52 - 53) رقم (104).
(2)
إسناده حسن، شيخ المصنف سيأتي (464)، القناعة والتعفف (54) رقم (115).
تنوعت دلالة هذه الآثار على مرتبة الكتابة، بحيث اشتملت على عدة أنواع من الأدلة الدالة عليها؛ فمن جهة المكتوب فيه اشتملت أبيات الأعرابية الكتابة في اللوح المحفوظ، ومن جهة وقت الكتابة تضمن أثر علي الإشارة إلى التقدير اليومي لكل نفس بما كتب لها من زيادة أو نقصان، كما اشتمل أثر عكرمة الكتابة ليلة النصف من شعبان، من نسخ آجال الأحياء، وتقدير حجاج تلك السنة، كما اشتملت آثار كل من معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز وابن مقاتل نفوذ الكتاب السابق ووجوب وقوعه، وأنها مهما حاول المرء جاهدا كسب شيء أو تركه مما لم يكن مكتوبا عليه، فإنه لن يعدو ما كتب، وقد سبق بيانه في حتمية وقوع القدر، قال شيخ الإسلام:"التقدير التابع لعلمه سبحانه، يكون في مواضع جملة وتفصيلا"
(1)
، وقد استقصى ابن القيم رحمه الله مواضع الجملة والتفصيل في ذلك، وهي:
التقدير العام: وهو التقدير الأول قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب اللَّه فيه كل شيء كائن إلى يوم القيامة، وكان ذلك حين خلق القلم، وأمره بكتابة ما هو كائن، وهذه الكتابة هي أول التقديرات التي قدرها اللَّه وكتبها على عباده.
التقدير الخاص: وهو تقدير أصحاب الجنة وأصحاب النار خاصة، عقيب خلق آدم عليه السلام، فقدّر اللَّه أعمال كل فريق منهما، وأخرج
(1)
العقيدة الواسطة من مجموع الفتاوى (3/ 149).
ذرية آدم من ظهره، وأخذ عليهم ميثاقه وأشهدهم على أنفسهم بأنه ربهم.
التقدير العمري: وهو حين يكون الجنين في بطن أمه، فيرسل المَلَك بكتابة رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، وقد ورد في هذا التقدير عدة أحاديث وآثار ظن بعض الناس التعارض بينها، أوردها ابن القيم رحمه الله وجمع بينها فقال: "اجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد، وأجله، وشقاوته، وسعادته وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير، وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض، وبعد التقدير الذي وقع يوم استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم، ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم، وحديث أنس غير مؤقت، وأما حديث حذيفة بن أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوما، وفي لفظ بأربعين ليلة، وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة، وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة، وهو حديث تفرد به مسلم، ولم يروه البخاري، وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما بحمد اللَّه، وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره اللَّه سبحانه على رأس الأربعين الأولى، حتى يأخذ في الطور الثاني، وهو العلقة، وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتب: رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته وسعادته، وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة، ولهذا قال في حديث ابن مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع
كلمات، وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها، ينقلها بإذن اللَّه من حال إلى حال، فيقدر اللَّه سبحانه شأن النطفة، حتى تأخذ في مبدأ التخليق، وهو العلق، ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما، فهو تقدير بعد تقدير، فاتفقت أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصدق بعضها بعضا، ودلَّت كلها على إثبات القدر السابق، ومراتب التقدير، وما يؤتى أحد إلا من غلط الفهم، أو غلط في الرواية، ومتى صحت الرواية، وفهمت كما ينبغي، تبيَّن أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة، متضمنة لنفس الحق وباللَّه التوفيق"
(1)
.
التقدير الحولي: وقد ورد في أثر عطاء أنه في شهر النصف من شعبان، وخصها عكرمة بليل النصف منه، وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر من رمضان، قال ابن العربي المالكي:"ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعوَّل عليه، لا في فضلها، ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها"
(2)
وقال ابن القيم: "من زعم أنها ليلة النصف من شعبان فقد غلط
(3)
"
(4)
.
التقدير اليومي: وقد واردت الإشارة إليه في أثر علي رضي الله عنه، وهو ما
(1)
شفاء العليل (39).
(2)
تفسير القرطبي (16/ 130) وهو ترجيح القرطبي كذلك.
(3)
وعبارة ابن كثير: "فقد أبعد النجعة"، انظر تفسيره (4/ 138).
(4)
شفاء العليل (40)، وانظر ابن جرير (25/ 108 - 109).
يقدره اللَّه تعالى في كل من موت ومرض وفقر وغنى ونحو ذلك، قال تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله: "هذا تقدير يومي، والذي قبله تقدير حولي، والذي قبله تقدير عمري، عند تعلق النفس به، والذي قبله كذلك عند أول تخليقة وكونه مضغة، والذي قبله تقدير سابق على وجوده، لكن بعد خلق السماوات والأرض، والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق، وفي ذلك دليل على كمال علم الرب، وقدرته، وحكمته، وزيادة تعريف لملائكته، وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه"
(2)
.
(1)
سورة الرحمن، من الآية (29).
(2)
شفاء العليل (43).