الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضنمت الآثار السابقة بيان أهمية التسليم للقضاء والقدر، وخطورة تسخطه وعدم الرضا به، ولئن كان الرضا بالقضاء المكروه للعبد فيه مشقة على النفس، فقد ذكر السلف ما جعلهم يرضون بذلك، فعروة بن الزبير رضي الله عنه خفّف على نفسه مصابه برجله وولده، بما بقي له من سائر جسده، وبقية أولاده، والفضيل رضي بالرزق الذي رضيه اللَّه له، وكذا أبو حازم قَبِلَ العطاء، ورضي بما لم يقسم له من السماء، وذكر عامر بن عبد قيس سبب ذلك أنه ما وجده في القرآن من تكفل اللَّه بالرزق، وأن الأمور كلها بيده فرضي بقسمة اللَّه له، ولشدة حرصهم على تحقيق هذا كان من دعائهم للَّه أن يرضيهم بقضائه، ولما حصلت لهم المصائب فإنهم قابلوها بالتسليم والرضا، ولم يتمنوا على اللَّه زوالها، لأمور هي أعظم من تلك المصائب التي أصيبوا بها، حيث رجوا ثوابها عند اللَّه، أو رأوا خيرا فيها لأنها كانت سبب تفرغهم للطاعة، أو أنهم لم يتيقنوا أين الخير في الصحة أم في العافية ففوَّضوا أمرهم للَّه يختار لهم ما فيه الخير، بل إن إبراهيم التيمي بيّن أن الخير إن لم يكن في القضاء الذي نكرهه، فلن يكون فيما نحب، وقد ذكر ابن عيينة توجيها لذلك بأن ما يكرهه يهيجه على الدعاء -وهو من أجَلِّ العبادات-، أما ما يحب فهو يلهيه، وفي الرضا بالقضاء تفريغ القلب، وقلة الهم وقد ذكر العلماء عدة أسباب تسهل الرضا والتسليم للقدر جمعها شيخ الإسلام الهروي عند كلامه على درجة
الصبر على البلاء بقوله: "الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج، وتهوين البلية بِعَدِّ أيادي المنن، وبذكر سوالف النعم"
(1)
، قال شارحه ابن القيم:"هذه ثلاثة أشياء تبعث المُتَلَبِّس بها على الصبر في البلاء، إحداها: ملاحظة حسن الجزاء، وعلى حسب ملاحظته، والوثوق به، ومطالعته، يخف حمل البلاء، لشهود العوض. . . والثاني: انتظار روح الفرج؛ يعني راحته، ونسيمه، ولذته؛ فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء. . . الثالث: تهوين البلية بأمرين؛ أحدهما: أن يعد نعم اللَّه عليه وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها، وأيس من حصرها، هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي اللَّه ونعمه كقطرة من بحر، الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم اللَّه بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء، وانتظار روح الفرج يتعلق بالمستقبل، وأحدهما في الدنيا، والثاني يوم الجزاء"
(2)
.
ومسألة الاستسلام للقدر والرضا به فيها تفصيل ضل بسبب عدم إتقانه طوائف كثيرة من أهل البدع، بل وكثير من عوام وجهال أهل السنة، وأنصاف متعلميهم، تجد في كلام بعضهم خلطا أو عدم وضوح رؤية حتى إنك لتقف أمام بعض الآثار في هذا الباب مستغربا ومتحيرا،
(1)
منازل السائرين (50).
(2)
مدارج السالكين (2/ 174).
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القشيري: "اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء اللَّه الذي أمر بالرضا به؛ إذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز أو يجب على العبد الرضا به، كالمعاصي وفنون محن المسلمين"
(1)
، قال شيخ الإسلام معلقا على كلامه:"وهذا الذي قاله، قاله قبله، وبعده، ومعه، غير واحد من العلماء"
(2)
.
قال ابن القيم: "غلط في هذا الأصل طائفتان أقبح الغلط، فقالت القدرية النفاة: الرضا بالقضاء طاعة وقربة، والرضا بالمعصية لا يجوز فليست بقضائه وقدره وقالت غلاة الجبرية الذين طَوَوا بساط الأمر والنهي: المعاصي بقضاء اللَّه وقدره، والرضا بالقضاء قربة وطاعة، فنحن نرضى بها ولا نسخطها"
(3)
، ثم فصّل القول وميّز الحقّ من الباطل فقال: "الحكم والقضاء نوعان: ديني وكوني؛
فالديني: يجب الرضا به وهو من لوازم الإسلام.
والكوني: منه ما يجب الرضا به، كالنعم التي يجب شكرها ومن تمام شكرها الرضا بها، ومنه ما لا يجوز الرضا به كالمصائب والذنوب التي يسخطها اللَّه، وإن كانت بقضائه وقدره، ومنه ما يستحبّ الرضا به
(1)
الرسالة (.؟ ؟ ).
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 709).
(3)
شفاء العليل (460).
كالمصائب، وفي وجوبه قولان، هذا كلّه في القضاء الذي هو المقضِيّ"
(1)
.
وذكر تفصيلا أطول في القضاء الكوني فقال: "الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه، ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم ألبتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضًا، فينازع حكم الحق بالحق للحق، فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي:(الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعا للقدر، لا واقفا مع القدر) اهـ، فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب، وقد عوتب على فراره من الطاعون، فقيل له: أتفر من قدر اللَّه؟ ! فقال: نفر من قدر اللَّه إلى قدره.
أما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله، كعلمه وكتابته وتقديره ومشيئته، فالرضا به من تمام الرضا باللَّه ربا وإلها ومالكا ومدبّرا، فبهذا التفصيل يتبيّن الصواب ويزول اللبس في هذه المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس"
(2)
.
(1)
شفاء العليل (461)، وانظر مجموع الفتاوى (8/ 76 - 77).
(2)
شفاء العليل (461)، وانظر مجموع الفتاوى (8/ 76 - 77).