الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الآثار الواردة في الاستثناء
.
596 -
حدثني الفضل بن جعفر قال: حدثنا النضر بن شداد بن عطية قال: حدثني أبي شداد بن عطية قال: حدثنا أنس بن مالك قال: "دخلنا على عبد اللَّه بن مسعود نعوده في مرضه فقلنا له: كيف أصبحت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أصبحنا بنعمة اللَّه إخوانا، قلنا: كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجد قلبي مطمئنا بالإيمان، قلنا: ما تشتكي أبا عبد الرحمن؟ قال: أشتكى ذنوبي وخطاياي، قلنا: ما تشتهي شيئا؟ قال: أشتهي مغفرة اللَّه ورضوانه، قلنا له: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمن أثر ابن مسعود رضي الله عنه جواز شهادة المرء على نفسه بالإيمان، واطمئنان قلبه بذلك، رغم شكواه من ذنوبه وخطاياه، ورجائه في مغفرة اللَّه ورضوانه، وفائدة هذا الأثر في هذه المسألة أن الشهادة على النفس بالإيمان في الحال، لا تنافي الخوف عليها من العاقبة، كما أنها لا تستلزم تزكية النفس مطلقا؛ لأن المراد به أصل الإيمان الذي في القلب، وهذا واضح كل الوضوح في أثر ابن مسعود رضي الله عنه الذي معنا، فإنه شهد على نفسه بالإيمان، لكن إيمان القلب بصريح عبارته:"أجد قلبي مطمئنا بالإيمان"، وفي نفس الوقت اشتكى ذنوبه ورجا ربه، وهذا يعني الاستثناء
(1)
سبق (307) في الجمع بين الخوف والرجاء من الباب الثاني.
في الإيمان باعتبار الأعمال، لأن المحظور من تزكية النفس هذا مربط فرسه، فإذا اعترف بالتقصير في العمل، ولم يجزم بدخول الجنة، وإنما علَّقها بالمشيئة والرجاء، فهو معنى قول السلف أنا مؤمن إن شاء اللَّه، بل ومعنى قوله هو رضي الله عنه أن الذي قال: أنا مؤمن، لزمه أن يقول إنه في الجنة، وإذا استثنى في الأخيرة تعيّن عليه الاستثناء في الأولى، ولعل ابن مسعود رضي الله عنه رأى أن هذا التفصيل يخرجه من كل إشكال، فجزم بالإيمان القلبي، ووكل علم حاله إلى اللَّه، وخاف ذنوبه، قال شيخ الإسلام:"الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق؛ لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به"
(1)
.
وعلى هذا فلا يكون بين قولي ابن مسعود رضي الله عنه تعارضا، بل يحمل قوله على التفصيل المعروف عن السلف، وهو جواز الاستثناء باعتبار، وعدمه باعتبار آخر، فهذه حقيقة قوله رضي الله عنه وليس ذلك اختلافًا كما قد يتبادر للقارئ، وهذا ما رجحه أبو عبيد القاسم بن سلام:"وهذا عندي وجه حديث عبد اللَّه حيث أتاه صاحب معاذ فقال: "ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن، ومنافق، وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين"، إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند اللَّه فإنه كان عندنا أعلم باللَّه
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 449).
وأتقى له من أن يريده"، قلت: وهذا الظن الذي ظنه به أبو عبيد هو صريح الأثر الذي أورته عنه فالحمد للَّه رب العالمين.
وقد أنكر جمع من أهل العلم ثبوت عدم الاستثناء عن ابن مسعود رضي الله عنه منهم يحيى بن سعيد
(1)
والإمام أحمد
(2)
، وعللوه بأن أصحاب عبد اللَّه بن مسعود يستثنون في الإيمان، والجمع أولى من الترجيح، لا سيما وأن الأثر المذكور في تراجعه ليس صريحا في أنه لا يرى الاستثناء، وإنما هو جار على مذهب السلف في أن الاستثناء في أمور الدنيا وأحكامها مشروع، ولهذا لما عدد شيخ الإسلام الأقوال في الاستثناء ذكر قول من قال:"هو مستحب ويجوز القطع باعتبار آخر"
(3)
واللَّه أعلم.
وقد جمع شيخ الإسلام الأقوال في الاستثناء فقال: "صار الناس في الاستثناء على ثلاثة أقوال:
قول أنه يجب الاستثناء، ومن لم يستثن كان مبتدعا.
وقول أن الاستثناء محظور؛ فإنه يقتضى الشك في الإيمان.
والقول الثالث: أوسطها وأعدلها، أنه يجوز الاستثناء باعتبار، وتركه باعتبار، فإذا كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب اللَّه عليَّ، وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه
(1)
انظر الإيمان لأبي عبيد (22).
(2)
انظر السنة الخلال رقم (1062)، ومجموع الفتاوى (7/ 417)(13/ 40).
(3)
انظر المجموع (7/ 666).
حسن، وقصده أن لا يزكى نفسه، وأن لا يقطع بأنه عمل عملا كما أُمر، فقُبل منه، والذنوب كثيرة والنفاق مخوف على عامة الناس. . . "
(1)
، لكن مع جوازه فالأفضل أن يقرنه. بما يدل على مراده، قال شيخ الإسلام:"الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء؛ إذا أراد ذلك -أي الإيمان المقيد، إيمان القلب-، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه"
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 40)، وقد ذكرت توثيق الأقوال ونسبتها لأصاحبها من الفرق وأصحاب، وما حصل في ذلك من المبالغات في التكفير وغيره، في رسالة الماجستير جهود الإمام القصاب (2/ 777).
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 449)، وانظر رسالة الأستاذ الدكتور عبد الرزاق العباد زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه (455 - 490).