الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
565 -
حدثني محمد بن إدريس الرازي قال: حدثني أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: "أرجو أن أكون قد رزقت من الرضا طرفا، لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة ذكر الفرق بين الصبر والرضا، وبين الرضا والعزم على الرضا، فورد في أثر سليمان الخواص أن الفرق بينهما أن الرضا يكون قبل وقوع المصيبة راضيا بأي ذلك كان، فإذا وقعت صبر، وإن كان في نفس الأثر ورد ذكر الفرق بينهما عن عمر بن عبد العزيز في إشارة إلى أن درجة الصبر دون درجة الرضا، من غير بيان لنوع الفرق، وهو مفسَّر في الأثر الثاني بأن الرضا هو أن يستوي عندك ما تحب وما تكره
(2)
، والصبر دون ذلك وهو معوّل المؤمن، فهو لا يستوي عنده ما يحب وما يكره، لكنه يصبر على ما يكره، كما أن أثر الداراني فيه الفرق بين الرضا والعزم على الرضا.
ولا شك أن الرضا درجة أعلى من الصبر كما قال ابن رجب:
(1)
إسناده صحيح، الرضا عن اللَّه بقضائه والتسليم بأمره (28) رقم (14)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 263)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 226)، وانظر كلام ابن تيمية على هذا الأثر في التعليق الآتي.
(2)
أي من جهة الرضا به، لا من جهة عدم التالم، أو موافقة الطبيعة البشرية، فهذا أمر لا يقدر عليه البشر وهو خلاف طبيعتهم، وانظر أيضا فتح الباري (10/ 124).
"الصبر كف النفس وحبسها عن السخط، مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا انشراح الصدر، وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال الألم، وإن وجد الإحساس بألم، لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب، من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية"
(1)
.
لكن ليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره، بل من شرطه ألا يعترض الحكم ولا يتسخطه، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله لذلك مثالا جيدا فقال:"المريض الشارب للدواء الكريه، متألم بصومه، راض به، والصائم في شهر رمضان، في شدة الحر، متألم بصومه، راض به، والبخيل متالم بإخراج زكاة ماله، راض بها، فالتألم كما لا ينافي الصبر، لا ينافي الرضا به"
(2)
.
أما الذي يكون قبل المصيبة فليس رضا وإنما هو عزم على الرضا قال شيخ الإسلام: "ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا، لا حقيقة للرضا، ولهذا كان طائفة من المشايخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره"
(3)
.
ثم شرح هذا الكلام بقوله: "ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا،
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 195).
(2)
مدارج السالكين (2/ 182 - 183).
(3)
التحفة العراقية (51).
وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزما، فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصا عزائم الصوفية. . . ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب، أنه كان يقول: وليس في سواك حظ، فكيفما شئت فاختبرني، فأخذه العسر من ساعته، أي حصر بوله، فكان يدور على المكاتب، ويفرق الجوز على الصبيان، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب"
(1)
.
وهنا لطيفة يجب التنبه لها وهي أن العزم على الرضا منوط بالشرع فلا يجوز العزم على الرضا بما لم يشرع للمرء الرضا به، وقد أوفى ابن القيم رحمه الله هذا المقام حقه في مدارج السالكين فقال: "وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه: فهذا هو الرعونة كل الرعونة؛ فإن مراده سبحانه نوعان: مراد يحبه ويرضاه؛ ويمدح فاعله ويواليه؛ فموافقته في هذا المراد هي عين محبته، وإرادة خلافه رعونةٌ ومعارضةٌ واعتراضٌ، ومراد يبغضه ويكرهه، ويمقت فاعله ويعاديه، فموافقته في هذا المراد عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه، فهذا الموضع موضع فرقان، فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر، فالعبودية الحق: معارضة مراده بمراده، ومزاحمة أحكامه بأحكامه، فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط وما يوجبه ويقتضيه عين الرعونة، والخروج عن العبودية، وهو عين الدعوى الكاذبة؛ إذ لو كان مصدر ذلك
(1)
مجموع الفتاوى (691 - 693) بتصرف، وانظر تيسير العزيز الحميد (524).
الاستسلام والموافقة وترك الاعتراض والمعارضة لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها، وترك معارضتها والاعتراض عليها هو عين المحبة والموالاة. . . ومن العجب: دعواهم خروجهم عن نفوسهم، وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم، وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد اللَّه الدينى الأمري النبوي، وبذلها للَّه في إقامة دينه، وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي، فانغمس فيهم يمزقون أديمه، ويرمونه بالعظائم، و. . .، قد تجرد عن الأوضاع والقيود والرسوم، وتعلق بمراضي الحي القيوم، مقامه ساعة في جهاد أعداء اللَّه، ورباطه ليلة على ثغر الإيمان، آثر عنده وأحب إليه من فناء ومشاهدات وأحوال، هي أعظم عيش النفس، وأعلى قوتها، وأوفر حظها، ويزعم أنه قد خرج عن نفسه فكيف حظها؟ ! ، ولعله قد خرج عن مراد ربه من عبوديته إلى عين مراده وهو حظه، ولو فتش نفسه لرأى ذلك فيها عيانا، وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه، وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظا وإيثارا لمراد النفس، بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه فإنه لا حظ للنفس في ذلك، فواللَّه ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج، وماذا يلعب الشيطان بالنفوس، وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة لمحتاجة إلى سؤال المعافاة، فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين وسؤالهم ربهم على أحوال هؤلاء الغالطين الذين مرجت بهم نفوسهم ثم قايس بينهما وانظر
التفاوت. . . -ثم ذكر آيات وأحاديث في تعوذهم من عذاب اللَّه وبلائه وسؤالهم العافية والسلام- فأين هذا من حال من قال: لا أحبك لثوابك؛ لأنه عين حظي، وإنما أحبك لعقابك؛ لأنه لاحظ لي فيه. . . فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم: إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله كالسكران ونحوه، ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده، ولكن الذي ينكر كون هذا من الأحوال الصحيحة والمقامات العلية التي يتعاطاها العبد، ويشمر إليها، فهذا الذي لا تلبس عليه الثياب، ولا تصبر عليه نفوس العلماء"
(1)
.
(1)
مدارج السالكين (2/ 49).