الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مؤمن ضال، فأتينا الشعبى فقلنا له: يا أبا عمرو إني قلت: إن الحجاج كافر، وإن هذا قال: الحجاج مؤمن ضال، فقال له الشعبي: يا عمرو شمّرت ثيابك وحللت إزارك، وقلت: الحجاج مؤمن ضال؟ كيف يجتمع في مؤمن إيمان وضلال؟ الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر باللَّه العظيم"
(1)
.
606 -
نا علي بن الجعد، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المنكدر قال:"كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج، فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي؛ فإنهم زعموا أنك لا تفعل، قال عبد اللَّه (أي: ابن أبي الدنيا) فحدثني غير علي بن الجعد أن ذلك بلغ الحسن البصري فقال: "أقالها؟ قالوا: نعم، قال: عسى"
(2)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة ما كان عليه الحجاج بن يوسف من الأعمال الفظيعة، والقبائح الكبيرة التي جعلت الناس يبغضونه،
= والقرآن وأهله عجيبة أيضا، العبر (1/ 20)، الوافي بالوفيات (1/ 1588).
(1)
إسناده ضعيف والأثر صحيح، فيه الجنبي ضعفه الأزدي انظر ميزان الاعتدال (1/ 167)، الإشراف (137) رقم (66)، وابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (39) رقم (94) مختصرا دون القصة، وصححه محققه الشيخ الألباني.
(2)
إسناده صحيح، حسن الظن باللَّه (90) رقم (115)، المحتضرين مختصرا برقم (119 - 120)، والرافعي في التدوين في أخبار قزوين (1/ 189)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (92/ 194)، وابن كثير في البداية والنهاية (9/ 138)، والذهبي في تاريخ الإسلام (1/ 743) ويراجع كذلك فقد ذكر ألفاظا أخرى.
والعلماء يحكمون عليه بما يناسبه، كلٌّ حسب اجتهاده، وما بلغة عنه من أفعاله المنكرة، فمن ذلك همّه بقتل الصحابي الجليل عبد اللَّه بن مسعود، وإنكاره قراءته رضي الله عنه، ووصفها بأنها رجز من رجز الأعراب، واختلاف الأجلح والشعبي مع عامر الملائي في تكفيره، وبغض الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز له، رغم أنهما كانا من حكام الدولة الأموية، وقبيلة واحدة، لكنه رجا له هو والحسن البصري بعدما بلغهما عنه من الاستغفار عند الموت.
والحجاج بن يوسف كما قال الذهبي: "أهلكه اللَّه في رمضان سنة خمس وتسعين كهلا، وكان ظلوما، جبارا، ناصبيا، خبيثا، سافكا للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدام، ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن، قد سقت من سوء سيرته في تاريخى الكبير، وحصاره لابن الزبير بالكعبة، ورميه إياها بالمنجنيق، وإذلاله لأهل الحرمين، ثم ولايته على العراق والمشرق كله عشرين سنة، وحروب ابن الأشعث له، وتأخيره للصلوات، إلى أن استأصله اللَّه، فنسبه ولا نحبه، بل نبغضه في اللَّه؛ فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان، وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى اللَّه وله توحيدٌ في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء"
(1)
، بل إن فسقه أمر مسفيض معلوم لا يمتري فيه أحد، قال شيخ الإسلام: "العدالة والفسق تثبت بالاستفاضة، ويُشهَد بها بذلك، كما يشهد المسلمون كلهم
(1)
سير أعلام النبلاء (4/ 343).
أن: عمر بن عبد العزيز كان عادلا، وأن الحجاج كان ظالما"
(1)
.
ومن أفعاله ما جعل بعض علماء عصره يكفره، قال ابن عبد البر:"كان الحجاج عند جمهور العلماء أهلا أن لا يروى عنه، ولا يؤثر حديثه، ولا يذكر بخير؛ لسوء سره، وإفراطه في الظلم، ومن أهل العلم طائفة تكفره"
(2)
، وقد عقد ابن كثير فصلا في كتابه البداية والنهاية في ما وقع منه مما يوجب كفره
(3)
، ووجه كلامه في ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:"وإنما نقم على قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، لكونه خالف القراءة على المصحف الإمام، الذي جمع الناس عليه عثمان، والظاهر أن ابن مسعود رجع إلى قول عثمان وموافقيه واللَّه أعلم"
(4)
.
وخلاصة القول فيه كما حققه ابن كثير أنه: "كان ناصبيا يبغض عليا وشيعته في هوى آل مروان بني أمية، وكان جبارا، عنيدا، مقداما على سفك الدماء بأدنى شبهة، وقد روي عنه ألفاظ بشعة شنيعة، ظاهرها الكفر كما قدمنا؛ فإن كان قد تاب منها، وأقلع عنها، وإلا فهو باق في عهدتها، ولكن قد يخشى أنها رويت عنه بنوع من زيادة عليه؛ فإن الشيعة كانوا يبغضونه جدا لوجوه
(5)
، وربما حرفوا عليه بعض الكلم،
(1)
درء التعارض (8/ 44).
(2)
التمهيد (10/ 6).
(3)
البداية والنهاية (9/ 128).
(4)
المصدر السابق.
(5)
وانظر كلاما لابن تيمية مؤيدا لهذا في منهاج السنة النبوية (4/ 113).
وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات، وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعا في سفك الدماء، فاللَّه تعالى أعلم بالصواب، وحقائق الأمور وسرائرها، وخفيات الصدور وضمائرها، قلت -أي ابن كثير-: الحجاج أعظم ما نقم عليه، وصح من أفعاله، سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند اللَّه عز وجل، وقد كان حريصا على الجهاد، وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرا ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلثمائة درهم واللَّه أعلم"
(1)
.
وهذا الذي حققه ابن كثير هو مذهب جماهير أهل السنة، وهو موافق لعقيدتهم في الفاسق الملي، ومرتكب الكبيرة، وعصاة الموحدين، من أنهم لا يسلبون إيمانه مطلقا، ولا يطلقونه عليه مطلقا، وإنما يطلق عليه مقيدا، فيقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، ونحو ذلك، ولهذا لم يكفره من أدركه من الصحابة، كعبد اللَّه بن عمر، وأنس ابن مالك، بل صلوا وراءه رغم تأخيره الصلاة عن وقتها
(2)
، ولما ناقش شيخ الإسلام من كفّر معاوية رضي الله عنه قال: "ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية، من ملوك بني أمية، وبنى العباس، كعبد الملك بن مروان وأولاده،
(1)
البداية والنهاية (9/ 133).
(2)
انظر مجموع الفتاوى (3/ 281).
وأبي جعفر المنصور وولديه الملقبين بالمهدي والهادي والرشيد وأمثالهم، من الذين تولوا الحلافة وأمر المؤمنين، فمن نسب واحدا من هؤلاء إلى الردة، وإلى أنه مات على دين النصارى، لعلم كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية، فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة، بل يزيد ابنه مع ما أحدث من الإحداث، من قال فيه: إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه، بل كان ملكا من ملوك المسلمين، كسائر ملوك المسلمين، وأكثر الملوك لهم حسنات، ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل وإما ظالم، وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته، ومنهم من كفَّر اللَّه عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل اللَّه فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال، وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه، ليس هو من أعمال الصالحين والأبرار"
(1)
، بل "في الجملة الملوك حسناتهم كبار، وسيئاتهم كبار، والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاص لا تكون لآحاد المؤمنين، فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد المسلمين: من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وجهاد العدو،
(1)
مجموع الفتاوى (4/ 473).
وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها، ومنع كثير من الظلم وإقامة كثير من العدل"
(1)
.
والذي يظهر لي واللَّه أعلم بالصواب، أن الحجاج كان عنده خلل فكري وعقدي، وافق طبعه الحادّ، فنتج عنه تلك العظائم في استباحة الدماء، وهو ما أشار إليه شيخ الإسلام من الخلل في مفهوم الطاعة لخليفة المسلمين في العهد الأموي، من بعض أنصارهم وشيعتهم، حيث قال:"كثير من أتباع بني أمية، أو أكثرهم، كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه، ولا عذاب، وأن اللَّه لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، واللَّه أمرهم بذلك"
(2)
، ولهذا كان لا يتورع عن أي عقوبة لمن رأى منه ما يعكر صفو هذه الطاعة المطلقة، أو يقلل من قدرها وأهميتها، وهذا واضح في قصته مع أبيه حين قام ليسلم على قاضي مصر التجيي، وكان من كبار التابعين، وكان ممن شهد خطبة عمر بن الخطاب بالجابية، وكان من الزهادة والعبادة على جانب عظيم، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث ختمات في الصلاة، وغيره فقال له: "يا أبة أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي؟ ! فقال له: يا بني واللَّه إني لأحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله، فقال: واللَّه ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله، فقال: ولم يا بني؟ ! قال: لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم، فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير
(1)
منهاج السنة (1/ 113).
(2)
منهاج السنة (6/ 430)، وانظر (3/ 487)(6/ 200).
المؤمنين، ولا يرونها شيئا عند سيرتها، فيخلعونه ويخرجون عليه، ويبغضونه، ولا يرون طاعته، واللَّه لو خلص لي من الأمر شيء لأضربن عنق هذا وأمثاله، فقال له أبوه: يا بني واللَّه إني لأظن أن اللَّه عز وجل خلقك شقيا"
(1)
، بل إن وصيته عند موته كان فيها:"أنه يشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنه لا يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك؛ عليها يحي، وعليها يموت، وعليها يبعث. . . فرفع أبو جعفر رأسه إلى أبي العباس الطوسي -وكان قائما على رأسه- فقال: هذه واللَّه الشيعة لا شيعتكم"
(2)
، وهذا فساد نظري أوجب هذا الفساد الأخلاقي الخاص، ولهذا لم يعرف عنه فساد أخلاقي في الشرب والفروج ونحو ذلك كما سبق عن ابن كثير، بل روي عنه نوع عبادة واهتمام بالقرآن وأهله.
وعلى كل حال هذا الكلام يقال في حياته، أما بعد موته وثبوت تراجعه، وندمه وسؤال اللَّه المغفرة والتوبة، ورجائه في عفو اللَّه، فينبغي أن لا يختلف في عدم تكفيره، بل يوكل أمره إلى اللَّه، وقد رويت في هذا المعنى آثار كثيرة، لخص محتواها الذهبي بقوله:"له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى اللَّه، وله توحيد في الجملة، ونظراء من الجبابرة والأمراء"
(3)
.
(1)
البداية والنهاية (9/ 117 - 118).
(2)
البداية والنهاية (9/ 119).
(3)
سير أعلام النبلاء (4/ 343) وانظر الآثار في: مسند ابن الجعد (1/ 283)، تاريخ الإسلام للذهبي (1/ 742)، والبداية والنهاية (9/ 137)، تاريخ دمشق =