الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضيف أنهما يأكلان، وأصبح فصلى مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"أين صاحب الضيف؟ " ثلاث مرات، والرجل ساكت، قال: أنا صاحب الضيف، قال:"حدثني جبريل أن اللَّه تعالى عز وجل ضحك حين قلت لخادمك أطفئ السراج" ونزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} "
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وبيان بعض محاسنهم، ومكارم أخلاقهم، وقد جعلتها في العناصر الأربعة، وهي: أفضليتهم وخيريتهم وأسبقيتهم، جهادهم ودفاعهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحبّهم له، الألفة والتحاب فيما بينهم، كريم أفعالهم ومحاسن أخلاقهم.
فأما أفضليتهم: فقد تضمنت الآثار بيان ذلك من عدة أوجه، حيث تضمن أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسفه وحزنه على أنه لم يعد يرى في وقته شيئا يشبه ما كان عليه صحابة رسول اللَّه، ثم فسّر ذلك بطول قيامهم الليل، ثم إذا أصبحوا بكوا بكاء المقصِّر المذنب، وهذا ما أكده
(1)
إسناده ضعيف، فيه عبد الوارث مولى أنس ضعفه الدارقطني، وانظر باقي الكلام فيه في لسان الميزان (4/ 85)، قرى الضيف (19 - 20) رقم (10)، وانظر الذي بعده حيث سمى الصحابي ثابت بن قيس، لكن قصة الأنصاري صحيحة في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، على اختلاف في تحديد صاحبها انظر فتح الباري (7/ 119 - 120).
الحسن البصري في الأثر بعده، وذكر أيضا بصرهم بدينهم أكثر من بصر من بعدهم بدنياهم، وزهدهم في الحلال أكثر من زهد من بعدهم في الحرام، ثم بيّن أثر أبي سلمة أنهم كانوا على سماحة الإسلام بلا رهبانية ولا تنطع، من تناشد الأشعار، والجلوس في المجالس العامة، وذكر جاهليتهم، لكن كل هذا في حدود المباح، ولذلك بيّن أنهم إذا أُريدوا على دينهم لم يقاوم غضبهم، وقد بيّن عبد اللَّه بن مسعود سبب هذه الأفضلية والخيرية ولو كان من بعدهم أكثر صلاة وصياما، بأنه زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، وسمى الحسن البصري هذا منهم كيسا، حيث بيّن أنهم في أمر الدنيا أخذوا صفوها، وتركوا كدرها، وفي أمر الآخرة فلا تتعاظم عندهم حسنة عملوها، ولا يتصاغر ذنب اقترفوه، ثم تضمنت الآثار بعد هذا بعض تفاصيل هذه الأفضلية، فقد كانوا إذا أسلموا أقبلوا على الآخرة، وتركوا الدنيا لأهل الشرك، ولم يكن لهم ما يأكلون إلا ورق الأشجار والحبلة والسمر، حتى كان أحدهم يضع كما تضع العترة، وتقرح أشداقهم من ذلك، ويطول بهم زمن الجوع إلى ثلاثة أيام، فيشوي أحدهم الجلدة فيأكلها، وقد لا يجدها فيحزم بطنه بالحجر، بل يلتقط بعضهم البردة ثم يقسمها مع أخ له اثنين، ولم يكن أحدهم أحق بديناره من أخيه المسلم، ولذلك كان بعض من تأخر به الموت فعاش إلى أن أدرك زمن التابعين، يتحسّر على تلك الأيام، وأولئك الأقوام، فأجاب أنس من سأل عن الزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة بأنهم أهل بدر.
ومن أوجه تلك الأفضلية النصوص الثابتة في حقهم كما تضمن أثر يحيى بن أبي كثير فضل بني عجل لما قاله فيهم صلى الله عليه وسلم يوم ذي قار، وبعض رؤى الصالحين كرؤية مالك بن دينار بأنه لم ير مثل الصحابة الصالحين.
قال العلائي: "لا خير إلا وقد سبقوا إليه من بعدهم، ولا فضل إلا وقد استفرغوا فيه جهدهم"
(1)
، وقال ابن كثير:"لهم الفضل، والسبق، والكمال، الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم، وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل"
(2)
، وأما نصوص الشرع في فضلهم فقد ذكر غير واحد أنها أكثر من أن تحصر قال الإسفراييني:"الأخبار في فضل الصحابة رضي الله عنهم أكثر من أن يحتمله هذا المختصر"
(3)
، وقال الذهبي:"مناقب الصحابة وفضائلهم فأكثر من أن تذكر"
(4)
، وقال شيخ الإسلام -لما ذكر ما يروى عن بعضهم الصحابة من المساوئ-: "قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم؛ من الإيمان باللَّه، ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من اللَّه به عليهم من الفضائل، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة
(1)
منيف الرتبة (31 - 32).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 260).
(3)
التبصير في الدين (180)، وانظر الصواعق المحرقة (2/ 607).
(4)
الكبائر (236).
التي هي خير الأمم وأكرمها على اللَّه تعالى"
(1)
، ومن لطيف ما ذكره ابن كثير في أفضليتهم قوله:"الصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم، الذين فتحوا الشام، يقولون: واللَّه لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد نوَّه اللَّه تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة"
(2)
.
وأما جهادهم ودفاعهم عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحبهم له: فقد تضمنت الآثار من ذلك العجب؛ فالأنصاري الذي كان يتشحط في دمه لم يرعه خبر مقتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بل أمر مخبره بأن يستمر في جهاده الواجب عليه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولو قتل فقد بلغ، وكيف هان ذهاب بصر أحدهم، وأجاب المُعَزِّين له بأنه لا حاجة له بالنظر إلى شيء بعد موت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفداهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأموالهم وأنفسهم وأعراضهم، وقد عرف أهل السنة قدر هذه المناقب التي امتازوا بها، وأنزلوهم المنزلة الرفيعة التي يستحقونها، فكان من جملة الاستدلال على تعديل الصحابة وتفضيلهم ما قاله الهيتمي: "لو لم يرد من اللَّه ورسوله
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 155 - 156).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 260)، وانظر الصواعق المحرقة (2/ 607).
فيهم شيء مما ذكرناه -أي من النصوص الشرعية-، لأوجبت الحال التي كانوا عليها؛ من الهجرة، والجهاد، ونصرة الإسلام، ببذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان، واليقين، القطع بتعديلهم والاعتقاد بنزاهتهم"
(1)
.
وأما الألفة والتحاب فيها بينهم: فقد كانوا رضي الله عنهم كقلب رجل واحد، يفضل أحدهم الموت على الحياة لأنه سيلقى الأحبة، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ومن سبقه من أصحابه، كما في قول بلال رضي الله عنه عند موته، وتحمل الأنصار في سبيل نصرتهم للمهاجرين، ما لو تحملته أم من أولادها لملّت، كما قال سيد المهاجرين والأنصار أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويبكي أحدهم لفراقهم وفراق رسول اللَّه ويحزنه ذلك كما في أثر سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وأما كريم أفعالهم، ومحاسن أخلاقهم: ففى قصة الأنصاري الذي أقرى ضيف رسول اللَّه، وضحك اللَّه من فعله، هو وزوجته، أكبر دليل على ما كانوا عليه، وسيأتي تفصيل ذلك في المباحث التالية، في صفات ومناقب بعضهم مفردة.
قال ابن تيمية: "لم يتنازع أهل العلم والإيمان، فيما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم"، وكل من له لسان صدق من مشهور بعلم أو دين، معترف بأن
(1)
الصواعق المحرقة (2/ 608).
خير هذه الأمة هم الصحابة. . . ولا تجد إماما في العلم والدين، كمالك والأوزاعي والثوري. . . وأمثالهم، إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا فيه مقتدين بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أبواب الفضائل والمناقب"
(1)
.
وقد عدد ابن القيم رحمه الله أسباب أفضلية الصحابة فقال: "درجات السبق أعني درجة العلم والعدل والجهاد وبها سبق الصحابة، وأدركوا من قبلهم، وفاتوا من بعدهم، واستولوا على الأمد البعيد، وحازوا قصبات العلى، وهم كانوا السبب في وصول الإسلام إلينا، وفي تعليم كل خير وهدى، وسبب تنال به السعادة والنجاة، وهم أعدل الأمة فيما ولوه، وأعظمها جهادا في سبيل اللَّه، فالأمة في آثار علمهم، وعدلهم، وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألة علم نافع إلا على أيديهم، ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعة من الأرض آمنا، إلا بسبب جهادهم، وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدى، إلا كانوا هم السبب في وصولهم إليه، فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف، والقلوب بالإيمان، وعمروا البلاد بالعدل، والقلوب بالعلم والهدى، فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة، مضافا إلى أجر أعمالهم التي اختصوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاء، وإنما نالوا هذا بالعلم،
(1)
العقيدة الأصفهانية (165).
والجهاد، والحكم بالعدل، وهذه مراتب السبق التي يهبها اللَّه لمن يشاء من عباده"
(1)
.
(1)
طريق الهجرتين (537).