الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كأنفسهم، فجعل أبو مسلم يكبّر، فقال أبو الدرداء: أجل، فهكذا فقولوا؛ فإن اللَّه تبارك وتعالى إذا قضى قضاء أحبّ أن يرضى"
(1)
.
554 -
حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني إبراهيم بن داود قال: قال بعض الحكماء: "إن للَّه عبادا يستقبلون المصائب بالبِشْر، أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم"
(2)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة حرص السلف على موافقة مشيئة اللَّه فيما قضاه وأحبه، وأن أحب شيء إليهم هو أحب شيء إلى اللَّه، وأن الذي
(1)
إسناده ضعيف، لعنعنة الوليد بن مسلم فهو ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية التقريب (7506)، والأثر حسن لغيره، الرضا عن اللَّه بقضائه والتسليم بأمره (22) رقم (6)، ومن طريق آخر برقم (47) عن مالك أنه بلغة. . .، المحتضرين برقم (125)، وابن المبارك في الزهد برقم (124) عن يحيى بن أبي عمرو عن سعيد بن جابر به دون القصة، وأبو مسهر في نسخته برقم (20)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 196) وقال:"هذه الحكاية محفوظة عن أبي مسلم الخولاني"، وكذلك في (65/ 296)، وفي الموضع الأول تصريح الوليد بالسماع، وفي الثانية متابعة أبي مسهر له وهو ثقة فاضل، التقريب (3762)، وذكره ابن الجوزي في الثبات عند الممات (75)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 194).
(2)
إسناده لين، إبراهيم بن داود لم أجد له ترجمة، ولعله القصار انظر طبقات الصوفية (245) والحلية (10/ 354)، الرضا عن اللَّه بقضائه والتسليم بأمره (45) رقم (37)، الورع رقم (218).
هوّن عليهم البلاء رؤيتهم القدر وأن اللَّه أراد بهم ذلك، وهو أعلم بعباده فلم يعارضوا هذه الإرادة بإرادة غيرها، وأنهم لا يحبون أن يردوا قضاء اللَّه، وفي أثر محمد بن علي وابن عمر رضي الله عنه بيان قاعدة مهمة في هذا الباب وهي أنهم يدعون اللَّه قبل وقوع البلاء فإذا وقع لم يخالفوا ما أحب اللَّه وقوعه بل رضوا به وسلموا له، ومن هنا نظروا إلى ما أوجب اللَّه عليهم في حالتي السراء والضراء، ولم يلتفتوا إلى تسخط القضاء ومعارضته، بل نظروا إلى واجب اللَّه عليهم فيه، فإن كان سراء شكروا، وإن كان ضراء صبروا أو رضوا، كما في أثر ابن مسعود رضي الله عنه، ولذلك لم يبالوا على أي الحالين أصبحوا، وفي أيهما كانوا، وقد زاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى شرحا بأنه لا يدري الخير في أي الحالين، ولذلك لم يتمنوا على اللَّه شيئًا سوى ما قدَّره، وقد عبر بعضهم عن هذا المعنى بأن سال اللَّه أن يختار له كما في أثر زبيد اليامي.
ولما شرح ابن رجب رحمه الله منزلة الرضا، ومعنى أقوال السلف الواردة في موافقتهم ما أحبه اللَّه من القضاء قال: "الرضا أن لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء، كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما. . . فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال اللَّه تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}
(1)
. . . وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي،
(1)
سورة الأنعام، من الآية (97).
وخِيرَتَه لعبده في البلاء، وأنه غير مُتَّهَمٍ في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء، فينسيهم ألم المقضي به، وتارة يلاحظون عظمة المبتلي، وجلاله، وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى لا يشعروا بالألم، وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم؛ لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم"
(1)
.
وناقش ابن القيم رحمه الله شيخ الإسلام الهروي في تعريفه الرضا عن اللَّه بقوله: "الرضا عنه في كل ما قضى"
(2)
، فقال:"الرضا عنه وإن كان من أَجَلِّ الأمور، وأشرف أنواع العبودية، فلم يطالب به العموم، لعجزهم ومشقته عليهم، وأوجبته طائفة واحتجوا بحجج. . . أن الرب تبارك وتعالى يختار شيئًا ويرضاه، فلا يختاره العبد ولا يرضاه، وهذا مناف للعبودية"، فأجابهم بقوله: "هذا موضع تفصيل، لا يسحب عليه ذيل النفي والإثبات، فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان:
أحدهما: اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده. . . فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه، وتسليمه ورضاه باللَّه ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا.
النوع الثاني: اختيار كوني قدري، لا يسخطه الرب، كالمصائب
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 254 - 255) ثم أورد آثارا كثيرة أغلبها مما ذكرته هنا في الأصل.
(2)
منازل السائرين (52).
التي يبتلى اللَّه بها عبده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه، ويدفعها، ويكشفها، وليس في ذلك منازعة للربوبية، وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر، فهذا يكون تارة واجبا، وتارة يكون مستحبا، وتارة يكون مباحا مستوى الطرفين، وتارة يكون مكروها، وتارة يكون حراما، وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه مثل قدر المعائب، والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها، ومنهي عن الرضى بها، وهذا هو التفصيل الواجب في الرضى بالقضاء، وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا عظيما، ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل؛ فإن لفظ الرضى بالقضاء لفظ محمود مأمور به، وهو من مقامات الصديقين، فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنوا أن كل ما كان مخلوقا للرب تعالى فهو مقضي مرضي، مخلوقا له ينبغي له الرضى به".
وهناك تقسيم آخر للقدر الكوني باعتبار ملاءمته للنفس ومنافرته لها، والمراد رضا العبد "بحسن اختيار اللَّه له، وليس المراد استواؤها عنده في ملاءمته ومنافرته، فإن هذا خلاف الطبع البشري، بل خلاف الطبع الحيواني"
(1)
، قال ابن القيم: "الرضى بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد، وإرادته، ورضاه، من الصحة، والغنى، والعافية، واللذة، أمر لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد محبوب له، فليس في الرضى به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشكر. . . والرضى بالقضاء الكوني القدري الجاري
(1)
مدارج السالكين (2/ 213).
على خلاف مراد العبد ومحبته، مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان، وهذا كالمرض، والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد، والآلام ونحو ذلك"
(1)
.
وعلى كل حال فإن العبد مأمور بعبودية اللَّه في كل حالاته "فعبودية أمره الكوني القدري: أن لا يتقدم بين يديه إلا حيث كانت المصلحة الراجحة في ذلك، فيكون التقدم أيضًا بأمره الكوني والديني، فإذا كان فرضه الصبر، أو ندبه، أو فرضه الرضى، حتى ترك ذلك فقد تقدم بين يدي شرعه وقدره"
(2)
، وقد ذكر رحمه الله أوجه استواء رضا العبد بالنعمة والبلية فبلغت اثنان وستون وجها
(3)
.
وهنا مسألة وردت في أثناء بعض الآثار وهي ترك بعض السلف الدعاء، وأن ذلك من تمام الرضا، أو من شرطه؛ كأثر إبراهيم التيمي الذي ترك الدعاء لأن في الابتلاء أجرا، أو أثر ابن عمير في الذي ترك الدعاء وكان يعرف اسم اللَّه الأعظم كي لا يرد قضاء اللَّه، أو أثر زبيد اليامي الذي ترك سؤال اللَّه وفضّل اختياره له عن اختياره لنفسه، فكان يقول:"اللهم خر لي" إذا طلب منه أن يستشفي اللَّه، وأثر رابعة العدوية عن قصة الإسرائيلي الذي كان يأكل من القمامة، وترك دعاء اللَّه أن يجعل
(1)
مدارج السالكين (197، 201).
(2)
مدارج السالكين (2/ 236).
(3)
مدارج السالكين (2/ 214 - 239).
رزقه من غير ذلك، وتعليلها بأن أولياء اللَّه إذا قضي لهم قضاء كرهوا أن يتسخطوه، وهذه مسألة مهمة جدا، تحتاج إلى تفصيل وليست على إطلاقها، ولذلك قال ابن القيم:"هذا يصح في وجه دون وجه؛ فيصح إذا كان الداعي يلح في الدعاء بأغراضه وحظوظه العاجلة، وأما إذا ألحّ على اللَّه في سؤاله بما فيه رضاه والقرب منه، فإن ذلك لا ينافي الرضا أصلا. . . بل الذي ينافي الرضا أن يلح عليه متحكما عليه، متخيرا عليه ما لم يعلم: هل يرضيه أم لا؟ كمن يلحّ علي ربه في ولاية شخص، أو إغنائه أو قضاء حاجته، فهذا ينافي الرضا؛ لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك"
(1)
.
وعلاقة الرضا بالدعاء علاقة وطيدة، وذلك أن المطلوب من العبد طاعة اللَّه ورضاه في كل حال؛ فإن كان الدعاء مأمورا به أمر إيجاب، أو استحاب، وجب فعله، أو استحب، والواجب والمستحب من جملة الرضا فكيف يعارضه، وإن كان الدعاء محرما، أو مكروها، حَرُم، أو كُرِه، ومن فعله كان متسخطا وغير راض، أما إن كان مباحا مستوي الطرفين، فهو مثله مستو الطرفين، ولا يكون ساخطا أو راضيا، إلا بأمر يضاف إليه، ليخرجه عن الإباحة، إلى الدرجتين السابقتين من الحرمة والكراهة، أو الوجوب والاستحباب، وهذا كالأكل والشرب واللباس، فإنه لا ينافي الرضا، وليس ترك ذلك من شرط الرضا، لكن قد يأخذ كل واحد من
(1)
مدارج السالكين (2/ 248)، وانظر الاستقامة (2/ 124 - 132).
هذه الأمور حكما آخر غير الإباحة، لأمر خارجي اتصل به، ولذلك غلط من غلط في هذا الباب بأحد أمرين؛ إما أنه ظن بأن الرضا بكل مقدور أمر يحبه اللَّه ويرضاه، والثاني أنهم لم يفرقوا بين أنواع الدعاء وأحكامه الخمسة التكليفية، وهذا الذي أدخل كثيرا منهم في الرهبانية، والخروج عن شريعة اللَّه، حتى تركوا الأكل والشرب واللباس والنكاح وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به
(1)
.
ومن هنا يتبيّن أن من ادعى من الصوفية أن الدعاء يقدح في الرضا مطلقا فقد غلط غلطا بيّنا، ولذلك بوّب البخاري باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع، قال ابن حجر:"لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يُمْنَع، ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف البلاء يقدح في الرضا والتسليم، فنَبَّه على أن الطلب من اللَّه ليس ممنوعا بل فيه زيادة عبادة"
(2)
.
(1)
انظر مجموع الفتاوى (10/ 708 - 718).
(2)
فتح الباري (10/ 124).