الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الآثار الواردة في أطفال المشركين
.
617 -
حدثني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني، حدثنا رزام أبو محمد التميمي -وكان من قرّاء القرآن- عن الحسن بن دينار، عن الحسن البصري قال: قيل له: "أين أطفال المشركين؟ قال: في الجنة، فقيل له: عمن؟ قال: قلت: عن اللَّه عز وجل؛ قال اللَّه تبارك وتعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)}
(1)
، وهذا لم يكذّب ولم يتول"
(2)
.
التحليل والتعليق
تضمن أثر الحسن البصري رحمه الله أن أطفال المشركين في الجنة، واستدل بأن النار يدخلها الذي كذّب وتولى، وهم لم يصدر منهم ذلك، وهذه المسألة كما قال ابن كثير:"مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم اللَّه تعالى فيها، قديما وحديثا"
(3)
، وسبب هذا الاختلاف اختلاف النصوص الواردة فيها، ووجود قائل من المتقدمين بمقتضى كل واحد منها، قال القرطبي:"وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار"
(4)
.
وقد استقصى ابن القيم رحمه الله الأقوال فيها فأوصلها إلى عشرة
(1)
سورة الليل، الآية (15 - 16).
(2)
إسناده حسن؛ رزام ثقة التقريب (1943)، وشيخ المصنف سيأتي (ص 651) ذكر ابن حبان له في الثقات، العيال (371) رقم (207).
(3)
تفسير ابن كثير (3/ 41).
(4)
تفسير القرطبي (7/ 275).
أقوال
(1)
، متفاوتة الصحة والضعف، لخصتها فيما يلي:
المذهب الأول: الوقف في أمرهم، ولا نحكم لهم بجنة ولا نار، ونكل علمهم إلى اللَّه، وهذا قد يعبر عنه بمذهب الوقف، وقد يعبر عنه بمذهب المشيئة، وأنهم تحت مشيئة اللَّه، يحكم فيهم بما يشاء، ولا يدرى حكمه فيهم ما هو، وخلاصة أدلتهم جواب النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنهم بقوله:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"، وخلاصة الجواب عن هذا الاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب بالوقف في أمرهم، وإنما وَكَلَ علم ما كانوا عاملين إلى اللَّه.
المذهب الثاني: أنهم في النار، وهذا قول جماعة من المتكلمين، وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصا عن أحمد، وغَلَّطَه شيخنا، وأدلة أصحاب هذا المذهب إما أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، أو أحاديث صحيحة أخص من الدعوى، ومعارضة بأحاديث أقوى منها نصَّت على أنهم في الجنة، أو محمولة على نوع خاص منهم قال ابن القيم:"هذا خاص ببعض أطفال المشركين، الذين ماتوا ودخلوا النار، ولا يلزم منه أن يكون هذا حكما عاما لجميع الأطفال"
(2)
.
المذهب الثالث أنهم في الجنة، وهذا قول طائفة من المفسرين
(1)
هذا في كتابه أحكام أهل الذمة (2/ 1087)، أما في طريق الهجرتين فنص على أنها ثمانية مذاهب (571).
(2)
أحكام أهل الذمة (2/ 1094).
والفقهاء والمتكلمين والصوفية وهو اختيار أبي محمد ابن حزم وغيره، قال النووي:"الصحيح الذي ذهب إليه المحققون، أنهم من أهل الجنة، ويستدل لي بأشياء؛ منها: حديث إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وحوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول اللَّه وأولاد المشركين؟ قال: "وأولاد المشركين"، رواه البخاري في صحيحه، ومنها قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
(1)
، ولا يتوجه على المولود التكليف، ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ، وهذا متفق عليه واللَّه أعلم"
(2)
.
الرابع: أنهم في منزلة بين الجنة والنار، وهذا قول طائفة من المفسرين، قالوا: وهم أهل الأعراف، قال ابن القيم:"وأرباب هذا القول، إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبدا فباطل؛ فإنه لا مستقر إلا الجنة أو النار، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة، ثم يصيرون إلى دار القرار، فهذا ليس بممتنع"
(3)
، وقال ابن كثير:"هذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة؛ لأن الأعراف ليست دار قرار، ومآل أهلها الجنة"
(4)
.
(1)
سورة الإسراء، من الآية (15).
(2)
شرح مسلم للنووي (16/ 208).
(3)
أحكام أهل الذمة (2/ 1125)، ثم ذكر القول الصحيح في أهل الأعراف أنهم من تساوت سيئاتهم وحسناتهم.
(4)
تفسير ابن كثير (3/ 41).
المذهب الخامس: أنهم مردودون إلى محض مشيئة اللَّه بلا سبب ولا عمل، وهذا المذهب مبني على أصول الجبرية، المنكرين للأسباب، والحكم والتعليل، وهو مذهب مخالف للعقل، والفطرة، والقرآن، والسنة، وجميع ما جاءت به الرسل.
المذهب السادس: أنهم خدم أهل الجنة، ومماليكهم معهم، بمنزلة أرقائهم ومماليكهم في الدنيا، وهو قول سلمان الفارسي رضي الله عنه، وورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أولاد المشركين:"هم خدم أهل الجنة" قال ابن القيم: "هذا الحديث ضعيف"
(1)
.
المذهب الرابع: أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفردون عنهم بحكم في الدارين، فكما أنهم منهم في الدنيا فهم منهم في الآخرة، والفرق بين هذا المذهب وبين مذهب من يقول هم في النار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعا لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما، لم يحكم لأفراطهما بالنار، وصاحب القول الآخر يقول هم في النار لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوا النار تبعا.
المذهب الثامن: أنهم يكونون يوم القيامة ترابا، حكاه أرباب المقالات عن ثمامة بن أشرس، وهذا قول لعله اخترعه من تلقاء نفسه، فلا يعرف عن أحد من السلف، وكأن قائله رأى أنهم لا ثواب لهم ولا عقاب، فألحقهم بالبهائم، والأحاديث الصحاح، والحسان، وآثار
(1)
أحكام أهل الذمة (2/ 1127).
الصحابة، تكذب هذا القول وترد عليه.
المذهب التاسع: مذهب الإمساك، وهو ترك الكلام في المسألة نفيا وإثباتا بالكلية، وجعلها مما استأثر اللَّه بعلمه، وطوى معرفته عن الخلق، ولعل سبب هذا المذهب ما قاله ابن كثير رحمه الله:"لما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة، وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع، كره جماعة من العلماء الكلام فيها"
(1)
.
المذهب العاشر: أنهم يمتحنون في الآخرة، ويرسل إليهم اللَّه تبارك وتعالى رسولا، وإلى كل من لم تبلغة الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وهذا قول جميع أهل السنة والحديث، نقله عنهم الأشعري، وحكى اتفاقهم عليله، وذكره ابن فورك، وابن عساكر.
وبعد هذا العرض للأقوال في هذه المسألة الشائكة، يظهر واللَّه أعلم، أنها تنقسم إلى الأقسام التالية:
أقوال ظاهرة الضعف: كإطلاق القول بأنهم في النار دون تفصيل، قال القاسمى:"لم يصح في تعذيب الأطفال بغير ذنب منهم حديث قط، ولا صح ذلك عمن ينظر إليه من أئمة السنة"
(2)
، وإطلاق القول بإرجاعهم إلى محض المشيئة بلا سبب ولا عمل؛ لأنه قول مبني على نفي
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 47).
(2)
إيثار الحق على الخلق (339).
الحكمة والتعليل في أفعال اللَّه، ونفي الأسباب، وكذا من جعلهم تبعا لآبائهم في النار؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وإلحاقهم بهم في الدنيا، لا يلزم منه إلحاقهم بالآخرة، ولهذا قال القاسمي:"اللَّه تعالى لا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا بغير ذنب، وهذه من فروع إثبات الحكمة"
(1)
، ناهيك عما شذّ به ابن أشرس بأنهم يصيرون ترابا، فهو قول مخترع لا دليل عليه ولا قائل به غيره.
أقوال ضعيفة عند التأمل والتحقيق: وهي القول بالوقف، أو ترك الخوض في المسألة أصلا، لأن الوقف يعارضه نصوص صريحة صحيحة في مصيرهم
(2)
، أما ترك الخوض فيها رأسا فإنه أمر اعتباري ونسبي، لا يمكن أن يتخذ قاعدة عامة، ولا يمنع أن يكون في المسألة راجح ومرجوح، لا سيما إذا تكلم فيها أهل البدع وأبدوا فيها وأعادوا، فيتعيّن إبراز القول الحق والرد على المخالف واللَّه أعلم، قال شيخ الإسلام: "ليس كل واحد قد بلغته النصوص كلها، ولا كل أحد يفهم ما دلت عليه النصوص؛ فإن اللَّه يختص من يشاء من عباده من العلم والفهم بما يشاء؛ فمن اشتبه عليه الأمور فتوقف لئلا يتكلم بلا علم، أو لئلا يتكلم بكلام يضر ولا ينفع، فقد أحسن، ومن علم الحق فبيَّنه لمن يحتاج إليه، وينتفع به فهو أحسن
(1)
إيثار الحق على الخلق (339).
(2)
انظر التمهيد (18/ 116)، وانظر في المراد بالوقف في هذه المسألة كلام شيخ الإسلام (4/ 309) فقد ذكر له ثلاثة معاني.
وأحسن"
(1)
.
أقوال ظاهرة القوة يمكن التوفيق بينها، وإلحاق غيرها بها: وهي قولان: أنهم في الجنة، أو أنهم يمتحنون يوم القيامة، والقول الأول يلحق به قولان هما: أنهم خدم لأهلها، أو أنهم في منزلة بين المنزلتين وهم أصحاب الأعراف.
فكونهم في الجنة ثبت بالنص الصحيح الصريح ولهذا جعله بعضهم نصا في مورد النزاع كما قال القاسمي: "وهذا نص في موضع النزاع، من أصح كتب الإسلام عند أئمة الحديث"
(2)
، ثم كونهم خدما لأهلها لا يعارض هذا لأنهم في الجنة، وكونهم أصحاب الأعراف سبق نقل كلام ابن كثير أن مآل أصحاب الأعراف إلى الجنة.
وكونهم يمتحنون يوم القيامة ورد فيه جملة من النصوص قال عنها ابن القيم "أحاديث هذا الباب قد تضافرت، وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا، وقد صحح الحفاظ بعضها. . . هذه الأحاديث يشد بعضها بعضا؛ فإنها قد تعددت طرقها، واختلفت مخارجها، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول اللَّه، لم يتكلم بها، وقد رواها أئمة الإسلام، ودَوَّنوها، ولم يطعنوا فيها. . . القول بموجبها هو قول أهل السنة والحديث. . . قد صح بذلك القول بها عن جماعة من الصحابة، ولم يصح عنهم إلا هذا القول،
(1)
درء التعارض (8/ 407).
(2)
إيثار الحق على الخلق (339)، وانظر أحكام أهل الذمة (2/ 1110).
والقول بأنهم خدم أهل الجنة صح عن سلمان، وفيه حديث مرفوع قد تقدم، وأحاديث الامتحان أكثر وأصح وأشهر. . . أحاديث هذا الباب. . . وإن أنكرها بعضهم، فقد قبلها الأكثرون، والذين قبلوها أكثر من الذين أنكروها، وأعلم بالسنة والحديث"
(1)
، وهذه الأحاديث لا تعارض القول الأول بأنهم في الجنة
(2)
، بل عليه تجتمع الأدلة قال شيخ الإسلام:"هذا أجود ما قيل في أطفال المشركين، وعليه تتنزل جميع الأحاديث"
(3)
، وقال:"وأما أولاد المشركين فأصح الأجوبة فيهم جواب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . .: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"؛ فلا يحكم على معين منهم لا بجنة ولا بنار، ويروى أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات القيامة، فمن أطاع اللَّه حينئذ دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، ودلت الأحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار"
(4)
.
ولهذا قال شيخ الإسلام: "وهذا التفصيل يذهب الخصومات، التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه؛ فإن من قطع لهم بالنار كلهم جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنة كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ثم إذا قيل: هم مع آبائهم، لزم تعذيب من لم يذنب، انفتح باب
(1)
أحكام أهل الذمة (2/ 1149).
(2)
انظر إيثار الحق (339).
(3)
مجوع الفتاوى (4/ 246).
(4)
مجموع الفتاوى (4/ 312)، وانظر (4/ 302 - 303).
الخوض في الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقدر والشرع، والمحبة والحكمة والرحمة، فلهذا كان أحمد يقول: هو أصل كل خصومة، فأما جواب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أجاب به أحمد آخرا، وهو قوله:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"، فإنه فصل الخطاب في هذا الباب، وهذا العلم يظهر حكمه في الآخرة، واللَّه تعالى أعلم"
(1)
، وهذا القول لا يعارض القول بأنهم في الجنة، وإنما يبيّن طريقة دخولهم الجنة، وهي بعد حصول الامتحان في الآخرة، فيدخل من علم اللَّه منه الإيمان لو عاش، فيكون دخوله بعد ظهور علم اللَّه فيه، وليس بمجرد علم اللَّه فيه، غاية ما فيه أنهم لا يدخلونها جميعهم، وهذا حق فقد وردت نصوص تنص على دخول بعض أولاد المشركين النار.
(1)
درء التعارض (4/ 295).