الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحرام قعودا، فقام رجل نصف وجهه أسود ونصف وجهه أبيض، فقال: أيها الناس اعتبروا بي؛ فإني كنت أتناول الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بسبِّهما، فبينا أنا ذات ليلة في شأني، إذ أتاني آت، فرفع يده، فلطم حُرَّ وجهي فقال: يا عدوّ اللَّه، أي فاسق، أتسبّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فأصبحت وأنا على هذه الحالة"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة النهي عن سب الصحابة رضي الله عنهم، وبيان بعض ما نال من وقع فيهم من العذاب والعقوبة، ومن جميل ما وقع في هذه الآثار نهي الصحابة أنفسهم عن ذلك، رغم ما وقع بين بعضهم من الجفوة، بل رغم ما حصل بينهم من الاقتتال، الذي كانوا فيه متأولين ومجتهدين، رضي الله عنهم وأسكنهم فسيح جناته، فإذا كان هذا حالهم رغم ما كان بينهم، فما بال من وقع فيهم ممن ليس بينه وبينهم إلا كل خير، بل لهم المِنَّة عليه في إسلامه، ولولاهم ما أسلم، وبدون طريقهم لربما كان في دركات جهنم.
فكانوا يقفون في وجه كل واش ومغتاب، وينهونه عن ذلك ويسدون عليه كل باب، كما فعل سعد بمن تكلم في خالد بن الوليد وبيّن
(1)
فيه أبو روح لم أعرفه، وأحمد بن عبد الأعلى ذكره ابن حبان في الثقات (8/ 8)، وقال عنه:"وكان ممن تفقه على مذهب أهل المدينة ويذب عن أقاويلهم"، العقوبات (199 - 200) رقم (312).
له بأن الذي بينهما لم يبلغ دينهما، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نهى عن ذلك في أحلك الأوقات، وأحوجه إلى الوقيعة في خصومه، وهو يوم صفين، فلم يمنعه ذلك من النهي عن سب عسكر الشام، بل ومدحهم بأن فيهم الأبدال، قال شيخ الإسلام:"الصحابة رضوان اللَّه عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا، ولم يختلفوا في شيء من قواعد الإسلام، لا في الصفات، ولا في القدر، ولا مسائل الأسماء والأحكام، ولا مسائل الإمامة، لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال، فضلا عن الاقتتال بالسيف"
(1)
.
وقد حصل لمن وقع فيهم بعض العقوبات في الدنيا، بسبب دعاة بعض دعاء الصالحين عليهم، كدعاء سعيد بن المسيب على من صار وجهه وجه زنجى وجسده أبيض، لسبه طلحة والزبير وعليا رضي الله عنهم، ومن اجتمع عليه الدبر حتى قطعه، ومن صار نصف وجهه أسود والآخر أبيض، ومن مسخ قردا، بل ومن لم يستطع النطق بالشهادتين عند احتضاره، ومن ذبح في نومه، وإخبار المحتضر بأن من جاء لبقض روحه يلعنون ويتبرؤون ممن يسب أبا بكر وعمر.
كل هذا يؤكد النهي عن سب الصحابة، والوقيعة فيهم، لا سيما أفاضلهم، كالشيخين، وباقى الخلفاء، أو السابقين الأولين، قال الهيتمي في معرض بيان النهي عن سب الصحابة: "هذا يشمل سائر الصحابة، لكنهم
(1)
منهاج السنة (6/ 336).
درجات، فيتفاوت حكمهم في ذلك، بتفاوت درجاتهم، ومراتبهم، والحرمة تزيد بزيادة من تعلقت به. . . فإذا انضاف إلى الصحبة غيرها، مما يقتضي الاحترام لنصرة الدين، وجماعة المسلمين. . . كان كل واحد من هذه الأمور، يقتضي مزيد حق"
(1)
.
وقد عده العلماء من جملة الكبائر قال الذهبي: "الكبيرة السبعون: سب أحد من الصحابة رضوان اللَّه عليهم. . . من طعن فيهم، أو سبَّهم، فقد خرج من الدين، ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره اللَّه تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم، وفضائلهم، ومناقبهم، وحبهم، ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور، والوسائط من المنقول، والطعن في الوسائط طعنٌ في الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسَلِم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار من ذلك"
(2)
، وقال شيخ الإسلام: "سب أصحاب رسول اللَّه حرام بالكتاب والسنة. . . -ثم ذكر نصوصا كثيرة جدا في هذا المعنى- وإذا كان شتمهم بهذه المثابة، فأَقَلُّ ما فيه التعزير؛ لأنه مشروع في كل معصية ليس فيها حدٌّ ولا كفارةٌ. . . وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين أهل الفقه والعلم، من أصحاب النبي، والتابعين
(1)
الصواعق المحرقة (1/ 150 - 151).
(2)
الكبائر (236)، وانظر تفسير ابن كثير (1/ 645)، الصواعق المحرقة (1/ 140).
لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة؛ فإنهم مجمعون على أن الواجب: الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول"
(1)
، وقال الإمام الطحاوي:"ونحب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حبِّ أحد منهم، ولا نتبرَّأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"
(2)
.
ومما يلتحق بهذه المسألة ويتصل بها، أحكام ساب الصحابة، ففيها بحث من جهة التكفير والتفسيق، ومن جهة نوع التعزير الذي يستحقه، بناء على الحكم عليه، ومن جهة حكم قبول توبته، قال شيخ الإسلام:"وبالجملة فمن أصناف السابَّة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من يرتدد فيه"
(3)
.
(1)
الصارم المسلول (3/ 1054، 1085).
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (490).
(3)
الصارم المسلول (1/ 590).