الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار الواردة في المطالب السابقة، بيان تحريم الخروج على الحكام، وكل ما يؤدّي إلى ذلك من الأسباب، كالطعن فيهم ومنازعتهم الأمر.
فالطعن في الحكام: هو كما يقال دق لطبول الخروج، ونذير بقرب وقوعه، ولذلك حرص السلف على غلق هذا الباب، وذكروا توجيهات كثيرة، وأبرزوا حِكَمًا متنوعة لذلك، فمن ذلك: أن اللَّه حكم عدل
(1)
، وقد بيّن ابن سيرين لمن سمعه يسب الحجاج، فكما سيأخذ من الحجاج أو الحاكم الظالم عموما ممن ظلمه، فسيأخذ للحجاج أيضا ممن ظلمه، فالأولى أن يشغل المرء نفسه بما يصلحها، وذكر عمر بن عبد العزيز أمرا آخر، وهو أن المظلوم قد يستوفي حقَّه بكثرة نيله من الظالم، ويكون للظالم الفضل عليه، ولهذا تبرَّأ بسر بن سعيد من تهمة تنقص الخلفاء، فلما أصرَّ الواشي به، دعا عليه فوقع ميتا.
ومنازعتهم الأمر: مذموم غير محمود أبدا، وأنكر ابن عمر رضي الله عنه القتال على الملك فلم يحمد الخارج، ولم يغدر بالمبايع، قال ابن عبد البر:"وأما قوله: "وأن لا ننازع الأمر أهله" فاختلف الناس في ذلك؛ فقال
(1)
وهذا من أعظم الفقه في باب الأسماء والصفات الذي فقهه سلف هذه الأمة، فأين هذا ممن نسب إليهم زورا مذهب التفويض، فانظر ماذا فهم من صفتي العدل والحكمة، وكيف عصمه ذلك، من الوقوع في الفتن.
قائلون: "أهله" أهل العدل والإحسان، والفضل والدين، فهؤلاء لا ينازَعُون؛ لأنهم أهله.
وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا له بأهل، ألا ترى إلى قول اللَّه عز وجل لإبراهيم عليه السلام:{قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}
(1)
، وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
وأما أهل الحق وهم أهل السنة فقالوا: هذا هو الاختيار أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا؛ فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء، وشن الغارات، والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين، أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد، ويجاهد العدو، ويقيم الحدود على أهل العداء، وينصف الناس من مظالمهم بعضهم لبعض، وتسكن له الدهماء، وتأمن به السبل، فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح"
(2)
.
فحرم الخروج عليهم: وهو أخطر من القتال في الفتنة، حيث إن أهل النهروان مذمومين مطلقا، بخلاف أهل الجمل وصفين، قال شيخ
(1)
سورة البقرة، من الآية (124).
(2)
التمهيد (23/ 278).
الإسلام: "الذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفِّين لم يكن من القتال المأمور به، وأن تركه أفضل من الدخول فيه، بل عدوه قتال فتنة، وعلى هذا جمهور أهل الحديث، وجمهور أئمة الفقهاء. . . وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة، والشام، والبصرة، وأعيان فقهاء الحديث. . . وغيرهم، أنه لم يكن مأمورا به، وأن تركه كان خيرا من فعله، وهو قول جمهور أئمة السنة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب، بخلاف قتال الحرورية والخوارج أهل النهروان، فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الصحابة وعلماء السنة"
(1)
.
ونصوص السلف في هذا المعنى كثير جدا، مبثوثة في كتبهم ورسائلهم، بل إن كثيرا منهم نصوا على أنها من مسائل الأصول، قال الإمام أحمد رحمه الله: "أصول السنة عندنا. . . السمع والطاعة للأئمة. . . والغزو ماضٍ مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماضٍ، ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة ونافذة، ومن دفعها إليهم أجزأ عنه برا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولي جائزة تامة ركعتين، من أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة. . . ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه، وأقروا له بالخلافة، بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق هذا الخارج عصا
(1)
منهاج السنة (8/ 523)، وانظر مجموع الفتاوى (7/ 481).
المسلمين، وخالف الآثار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق"
(1)
، وقال شيخ
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 161)، وهو في باب سياق ما روي من المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة بدأها بسفيان الثوري ثم الأوزاعي ثم ابن عيينة ثم أحمد بن حنبل ثم علي ابن المديني ختمهم بابن جرير الطبري لا يكاد يخلو اعتقاد أحدهم من ذكر السمع والطاعة وتحريم الخروج على الحكام، وانظر قول الإمام أحمد خاصة في الرسائل والمسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة (2/ 3 - 10)، وانظر المراجع الآتية: الإيمان للعدني (115)، والإبانة لأبي الحسن الأشعري (61)، مع مقالات الإسلاميين (1/ 348)، ورسالة إلى أهل الثغر (296)، والسنة لابن أبي عاصم (3/ 478 - فما بعدها)، والشريعة للآجري (1/ 373 - 384)، والسنة للخلال (1/ 73 - 89)، أصول السنة لابن أبي زمنين (275 - 292)، التبصير في الدين لابن جرير (154 - 158)، شعار أصحاب الحديث أبي أحمد الحاكم (31)، والتنبيه والرد للملطي (15، 17)، اعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي (75 - 76)، الرسالة الوافية للداني (97)، والسنن الواردة في الفتن (2/ 381)، عقيدة أصحاب الحديث للصابوني (92، 93)، شرح السنة للبربهاري (51)، الشرح والإبانة لابن بطة (175، 276 - 281)، والحجة في بيان المحجة للتيمي (1/ 235 - 242)، ، وشرح العقيدة الطحاوية (379)، وقطف الثمر لصديق حسن خان (133)، بل لأهمية هذه المسألة فقد ذكرت في كتب الفقه أيضًا بتفاصيل كثيرة، انظر: الشرح الميسر على الفقهين الأبسط والأكبر (108)، المغني لابن قدامة (10/ 46)، المهذب (3/ 249)، مغني المحتاج (4/ 123)، منار السبيل (2/ 398)، الدراري المضية للشوكاني (505)، وشرحه الروضة الندية لصديق حسن خان (2/ 778)، السيل الجرار (1/ 281)(4/ 511، 556)، المدخل لابن بدران (78).
الإسلام: "من الأصول التي دلت عليها النصوص، أن الإمام الجائر الظالم يؤمر الناس بالصبر على جوره وظلمه وبغيه، ولا يقاتلونه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في غير حديث"
(1)
، ولذلك فإن بعض السلف امتنع من التحديث بما ظاهره يؤيد الخروج قال ابن حجر:"وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمدُ في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان. . . وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب واللَّه أعلم"
(2)
، وهكذا تجد في كل فتنة حصلت في الأمة:"كان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج، والقتال في الفتنة، كما كان عبد اللَّه ابن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين وغيرهم، ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث، ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم"
(3)
.
(1)
الاستقامة (1/ 32) وانظر (28/ 128).
(2)
فتح الباري (1/ 225).
(3)
منهاج السنة (4/ 528).