الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما سمّتك أمك"
(1)
.
التحليل والتعليق
تضمن الأثران السابقان بيان ندم من حمل السلاح على الحاكم المسلم، وتركه الخروج والقتال، ثم البقاء متخفيا لمدة طويلة، ثم عدم احتماله لهذا الهروب والاستمرار فيه، وبالتالي اتخاذ قرار وقف التخفي أو الاستسلام للخليفة المسلم، وفي ضمن ذلك من نصحه من العلماء بأن لا يلقي نفسه للتهلكة، ليقينه بأنه سيقتل، كما أن الخليفة المنصور كان له موقف رائع بالعفو والصفح وإرجاع الحقوق إلى أهلها، وتسليم ما صودر منه وتأمينه على ماله ونفسه، ولا شك أن هذا هو المتعيّن في أيام الفتن والخروج، أن تكف الفئة الباغية، والطائفة الخارجة، الحاملة للسلاح، والشاقة لعصا المسلمين، وترجع إلى رشدها بكف أذاها عن المسلمين، وجمع الكلمة، وتأمين الخائفين، وترك ترويع الآمنين، كما يجب على الحاكم والسلطان أن يقابل فعلهم بالترحيب، وعملهم بالقبول والتأييد، وتيسير سبل الصلح والألفة والتراحم بين العبيد، وأن لا يقابله بالحبس
(1)
إسناده صحيح، الإشراف (136) رقم (64)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 274)، ومن طريقه المزي في تهذيب الكمال (3/ 143)، والأزدي في المتوارين (57 - 58)، والطبري في تاريخه (4/ 23) وفيه قصة خروجه وأماكن تخفيه مطولا، والذهبي في السير (4/ 337) وذكر أن اختفاءه طال حوالي ثلاث عشرة سنة، وابن الجوزي في صفة الصفوة (3/ 80)
والاعتقال وبالتعذيب، بله القتل والتشريد، قال شيخ الإسلام:"الشارع أمر كل إنسان بما هو المصلحة ليه وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم. . . وأمر الرعية بالطاعة والنصح. . . وأمر بالصبر على استئثارهم ونهى عن مقاتلتهم ومنازعتهم الأمر مع ظلمهم؛ لأن الفساد الناشئ من القتال في الفتنة، أعظم من فساد ظلم ولاة الأمر فلا يزال أخف الفسادين بأعظمهما"
(1)
، والمراد أن كل واحد عليه أن يقوم بما أمر اللَّه به ولا يدفعه حظ نفسه وهواها أن يجاوز حكم اللَّه، كما فعل قتلة الحسين رضي الله عنه حين أبوا إلا أن يستأسر لهم، رغم مرضه عليهم أن يرجع إلى بيته أو يذهب إلى الثغر أو يذهبوا به إلى ابن عمة يزيد، فلم يمكنوه من كل ذلك وأبوا إلا أن يستأسر لهم، قال شيخ الإسلام:"ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه، وأنه كان يجب تمكينه مما طلب، فقاتلوه ظالمين له، ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة، ولا طالبا للخلافة، ولا قاتل على طلب خلافة، بل قاتل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب أسره"
(2)
، والمراد أن منهج أهل السنة والجماعة في هذا هو المنهج الوسط، وطريق العدل بجمع الكلمة وتأليف القلوب، وبهذا أفتى العلماء المعاصرون لما حدث من فتن وقلاقل في بعض البلدان الإسلامية، ومن ذلك النصيحة الذهبية لفضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله لمن حمل السلاح في الجزائر
(1)
منهاج السنة (4/ 541 - 542)، وانظر (4/ 560).
(2)
منهاج السنة (8/ 147).
بقوله: "نصيحتي لإخواني الذين حملوا السلاح، ويحملونه الآن: أن يضعوا السِّلاح، وأن يدخلوا من هذا الباب الذي فتحته الحكومة.
ونصيحتي للحكومة ألَّا تؤذي هؤلاء الذين وضعوا السلاح، وألَّا تمسَّهم بعذاب، وألَّا تحرمهم من حقوقهم الوظيفية والاجتماعية ما داموا أهلًا لذلك، بمعنى أنَّها تعفو عن كلِّ ما سلف، وكأن شيئًا لم يكن، حتى تطيب النفوس، وتهدأ الأمور، فما من قلب من قلوب بني آدم إلَّا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُصرِّفه تعالى كيف يشاء، فلا ييأس هؤلاء المقاتِلون، والحكومة يجب أن ترحمهم، وأن تعفو عنهم ما سلف، حتى تهدأ الأمور وتستقرَّ إن شاء اللَّه"
(1)
، بل استمر رحمه الله في النصح لعامة المسلمين والدعاة وتوجيههم لأمثل طريق يقضوا به على الفتن ويقطعوا دابرها، حتى لا تعاود الظهور، وتقصم الظهور، وكيف يتعاملوا مع الذي ألقوا السلاح فقال: "بالنسبة للآخرين: أن يتلقَّوا هؤلاءِ بوجهٍ طلْقٍ وصدرٍ مُنشرِحٍ، وأن يفرحوا بهم، وأن يُكرموهم، وألَّا يروهم جفاءً أو كراهيةً أو عبوسًا في وجوههم؛ لأنَّ الحالَ بعد وضع السِّلاح ليس كالحال قبل وضع السِّلاح، وأن يتناسَوا كلَّ ما جرى.
سادسًا: بالنسبة للدُّعاة أيضًا: يَحثُّون الناسَ على أن يتآلفوا ويتقاربوا، ويتعاونوا على البرِّ والتقوى، ويتناسَوا ما سبق، وتبدأ الحياة
(1)
فتاوى العلماء الأكابر (162).
من جديد"، "ونحن نشكرُ الدولةَ على العفوِ العام، ونشكرُ مَن ألقى السِّلاحَ على استجابتِه"
(1)
.
كما أنه رحمه الله أشار إلى أمر مهم تضمنه الأثران السابقان وهو ما يتعلق بتململ قطن بن معاوية وسعيد بن جبير من الاختفاء والهروب من الحاكم، وعدم رضاهم بالحالة التي يعيشونها، رغم تركهم القتال والخروج، فعلّل ذلك تعليل فقيه بصير بالمصالح والمفاسد ومدرك لعواقب الأمور وهذا نص سؤال المقاتلين وجواب الشيخ عليهم: "السائل: شيخنا بعض الإخوة عندنا - بعد أن سلَّموا بأنَّ هذا ليس بجهاد على وفق ما ذكرتم؛ يعني لم يثقوا في الحكومة؛ يعني نسبيًّا، فيسألون هل يجوز لهم المكث في الجبال دون الرجوع إلى الحياة المدنية، بدون قتال يعني يبقون بأسلحتهم في الجبال ويتوقَّفون عن القتال، لكن لا يرجعون إلى الحياة المدنية؟
الشيخ: أقول: إنَّهم لن يبقوا على هذه الحال، مهما كان الحال، ولا بدَّ أن تحرِّكهم نفوسُهم في يوم من الأيام حتى ينقضُّوا على أهل القرى والمدن؛ فالإنسانُ مدنيٌّ بالطبع، يبقى في رؤوس الجبال وفي تلالها وشعابها، ومعه السلاح؟ ! ، في يوم من الأيام لا بدَّ أن تُهيِّجهم النفوسُ حتى يكونوا قطَّاعَ طرق!
(1)
فتاوى العلماء الأكابر (187).
السائل: إذًا لا يجوز لهم المكث على هذه الحال؟
الشيخ: هذا ما أراه، أرى أن ينزلوا للمدن والقرى ولأهليهم وذويهم وأصحابهم"
(1)
، ومصداق كلامه رحمه الله ما وقع لمرداس بن أدية الخارجي، وكان خارجيا لا يرى حمل السيف واستحلال الدماء، قال عنه المبرد:"لما خرج من حبس ابن زياد ورأى جِدَّ ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج، فقال لأصحابه: إنه واللَّه ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين، تجري علينا أحكامهم، مجانبين للعدل، مفارقين للفصل، واللَّه إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنا ننتبذ عنهم، ولا نجرد سيفًا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا"
(2)
، فكان هذا شعاره لكنه ما لبث أن بدأ يقطع سبيل قوافل الخليفة فيأخذ بزعمه نصيبه ونصيب أصحابه من الفيء، وانتهى به الأمر إلى القتال فقتل وصُلب.
(1)
المصدر السابق (172).
(2)
الكامل لابن المبرد (2/ 284).