الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضنمت الآثار السابقة بعض فضائل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أوجه كثيرة قسمتها إلى العناصر الأربعة الماضية، وهي: زهده وورعه، وعدله وخوفه في خلافته، وثناء الناس عليه، وبعض كراماته.
فأما زهده وورعه: فقد تضمنت الآثار في ذلك عدة أوجه، فمن أهمها زهده في مأكله، حيث كان مقدار أكله حوالي إحدى عشرة لقمة يوميا، وكان يترك كثيرا من أطايب الطعام المباح، رجاء استيفاء أجر حسناته التي قدّمها أوفى ما يكون عند اللَّه، وألا يكون قُدِّم له منها شيء في هذه الحياة الدنيا، وحرصا على الحفاظ على المنزلة التي يرجوها من مرافقة صاحبيه كما رافقهما في الدنيا، فمن ذلك ترك شرب العسل، واقتصاره على أزهد شيء في الذبيحة، كالعرق والرقبة والعلباء، وإن طبخها طبخها بأبسط شكل، ولم يدخل عليها التحسينات من السمن والبهارات ونحو ذلك.
وزهده في الجاه الدنيوي فكان لا يهمه التفاخر في الزواج فالمسلمون عنده سواء في التزويج والتزوج، ويأبى المدح ويخافه على نفسه وعلى
=آخر حدثنا أبو بكر الشيباني به، ومن طريق المصنف اللالكائي في كرامات الأولياء (9/ 129 - 130) رقم (69)، ولذا ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 346).
المادح، ويخالف نفسه في هواها حتى إنه ليكرهها على الجماع ليس لحظ نفسه منه، وإنما حرصا على الولد الذي يسبح اللَّه.
وكان بكَّاءً يسمع خنينه من وراء ثلاثة صفوف، وكان زاهدا في ملبسه يرى عليه آثار الترقيع حتى عُدَّت له تلك الرقاع فبلغت نيفا، كل راو يذكر ما رأى من ذلك.
وأما عدله وخوفه في خلافته: فهو مضرب المثل فيه، فكان يركب مع سائر رعيته على الدابة، ولا يرضى حتى يكون هو في الخلف، ويخاف على رعيته أن تصيبهم هلكة على يديه، ويقبل منهم الانتقاد ويعمل به، ويخشى أي محاباة بسبب المنصب الذي تولاه، فلا يعطى أبناءه وأهله من الأموال إلا ما يستحقونه كعموم المسلمين، ولهذه العلة منع ابنه عبد اللَّه من الجهاد خشية أن يحابوه في المغنم، فإن رأى حاجة شديدة بأحدهم أعطاه من ماله الخاص وأمره بالاتجار والتكسب به، ويخشى من الأموال التي تجبى إليه أن يفتتن بها، فيسرع في قسمتها على المسلمين، ويتصفح أحوال المجاهدين فيرجع من كان أبواه في حاجته، ومع هذا العدل والتورع يخاف على نفسه من تبعات الخلافة ويتمنى قبل الموت أن يخرج منها كفافا لا له ولا عليه، ولما كبر سنة خاف من التفريط فسأل اللَّه أن يتوفاه.
وأما ثناء الناس عليه: فكل مسلم يلهج لسانه بذكر محاسنه، والثناء على أعماله، شهد له علي بن أبي طالب بالجنة، ويأمر ذريته بذلك، ويتمنى أن يلقى اللَّه بمثل صحيفته، ويدعو له بتنوير قبره، كما نوّر مساجد
اللَّه بالتراويح، ويشبهه عثمان بن عفان رضي الله عنه بلقمان الحكيم، ويعبر عن عجزه عن إدراك مثل درجته، ويجزم أنه لن يوجد مثل عمر، ويؤكّد هذا المعنى معاوية رضي الله عنه حيث لم يستطع أن يسير في الناس سيرة عثمان، فأما سيرة عمر فلا مطمع فيها، وهكذا بعدهم عبد الملك بن مروان ترحم عليه، وأثنى على بصره وعلمه بالدنيا، وأنه لم يغتر بها، بل إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جعلت ذكره يحسن المجالس، ثم ذكرت رثاء الجن له، بل إن أخباره وصفاته عند أهل الكتاب عرفونه بها، كما عرفه النجراني يوم ركض على فرسه، وعلم أنه هو الذي سيخرجهم من جزيرة العرب.
وأما كراماته: فقد ورد أثر استقائه بالعباس رضي الله عنه وتبشيره بالغوث بصوت سمعه بعض الأعراب في بواديهم من الغمام في نفس وقت الاستقتاء
(1)
.
ولهذا كله وغيره فإنه لا يطعن في عمر رضي الله عنه إلا بأحد سببين كما قال شيخ الإسلام: "إما نقصم العلم، وإما نقص الدين"، ثم قال: "من المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر رضي الله عنه ملأ الآفاق، وصار يضرب به المثل، كما قيل: سيرة العمرين. . . ويكفي الإنسان أن الخوارج الذين هم أشد الناس تعنتا، راضون عن أبي بكر وعمر في سيرتهما، وكذلك الشيعة الأولى أصحاب علي، كانوا يقدمون عليه أبا بكر وعمر. . . وهؤلاء أهل
(1)
وقد استقصى ابن حجر الهيتمي كل هذا، وذكر النصوص معزوة إلى مصادرها في كتابه الصواعق المحرقة (1/ 249 فما بعدها).
العلم الذين يبحثون الليل والنهار عن العلم، وليس لهم غرض مع أحد، بل يرجحون قول هذا الصاحب تارة، وقول هذا الصاحب تارة، بحسب ما يرونه من أدلة الشرع. . . -ثم ذكر جملة منهم-، ومن لا يحصى عددهم إلا اللَّه، من أصناف علماء المسلمين، كلهم خاضعون لعدل عمر وعلمه، وقد أفرد العلماء مناقب عمر، فإنه لا يعرف في سير الناس كسيرته. . .وكل هؤلاء العلماء الذين ذكرناهم، يعلمون أن عدل عمر كان أتم من عدل من ولي بعده، وعلمه كان أتم من علم من ولي بعده، وأما التفاوت بين سيرة عمر وسيرة من ولي بعده، فأمْرٌ قد عرفته العامة والخاصة؛ فإنها أعمال ظاهرة، وسيرة بيِّنَةٌ، يظهر لِعُمر فيها من حسن النية، وقصد العدل، وعدم الغرض، وقمع الهوى، ما لا يظهر من غيره -ثم ذكر آثارا في هذا المعنى-، وهذه الآثار وأضعافها مذكورة بالأسانيد الثابتة في الكتب المصنفة في هذا الباب، ليس من أحاديث الكذابين، والكتب الموجودة فيها هذه الآثار المذكورة بالأسانيد الثابتة كثيرة جدا. . .وهذا باب طويل قد صنف الناس فيه مجلدات، في مناقب عمر
(1)
مثل: كتاب أبي الفرج ابن الجوزي، وعمر بن شبه وغيرهما، غير ما ذكره الإمام أحمد بن حنبل، وغيره من أئمة العلم، مثل: ما صنفه خيثمة بن سليمان في فضائل
(1)
ومنها ما ألفه المصنف حيث ذكر ابن القيم أن له كتاب مناقب عمر، الجواب الكافي (30)، ولم أجد من ذكره لكن ذكر مقتل عمر فلعله هو واللَّه أعلم، انظر مقدمة الدكتور مصلح لكتاب التهجد.
الصحابة، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم
(1)
"
(2)
.
ومسألة تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سائر الصحابة من أصول مسائل أهل السنة والجماعة، التي يبدع فيها المخالف، قال شيخ الإسلام: "تفضيل أبي بكر، ثم عمر، على عثمان وعليٍّ، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين، المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم. . .وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك. . .وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول اللَّه، وإن كان غيرهم يشك فيها، أو ينفيها كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته، وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم في الصفات، والقدر، والعلو، والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته
(3)
. . .ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول"
(4)
.
(1)
كالأبواب المفردة من كتب السينة كالكتب الستة وغيرها؛ فإنها تفرد كتابا لفضائل الصحابة فتبدأ بأبي بكر ثم عمل، انظر على سبيل المثال لا الحصر صحيح البخاري (3/ 1345)، وصحيح مسلم (4/ 1865)، وغير ذلك كثير جدا.
(2)
منهاج السنة (6/ 50 - 58)، وانظر كذلك للتوسع (11/ 56)(8/ 223)، والشذا الفياخ (2/ 507).
(3)
وفي منهاج السنة (8/ 223) جعل إجماعهم على تفضيل الشيخين أعظم من إجماعهم على بعض هذه المسائل المتواترة.
(4)
مجموع الفتاوى (4/ 421 - 425) بتصرف.