الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحليل والتعليق
تضمنت الآثار السابقة بيان علاقة المعرفة بالرضا بالقضاء والقدر؛ وأن الرضا غصن من أغصان المعرفة، كما في أثر ابن إسحاق، حيثما بيّن أن بلوغ الرضا يكون بالمعرفة، ثم الآثار التي بعده تؤكد هذا المعنى، حيثما تضمنت أن رضا السلف بحالهم التي كانوا عليها إنما حصل لهم بالمعرفة، فمن عرف ربه استغنى عن الناس، ولم يسُؤ ظنه به، والفقير هو الذي جهل اللَّه، وأن الذي يرضى بالقضاء الموافق لهواه، ويتسخط المخالف لهواه إنما أوتي لقلة علمه بالغيب، ولذلك عامل بشير الطبري ربه بمقتضى هذه المعرفة فأعتق عبيدة بعد سرقة جواميسه، رغبة فيما عند اللَّه من الأجر، وكذا المزارع الذي أصابت الآفة زرعه، فبكى خوفا من أيكون ذلك بسبب ذنب اقترفه، فيكون من الظالمين، وأجاب أبو العتاهية من شكى إليه طول السجن، بأن لا ييأس من الفرج، وهو يعرف أنه من اللَّه وبقضائه، وبهذا كله يتبيّن أهمية المعرفة وأثرها على الرضا بالقضاء والقدر، وأنه كلما قويت معرفة العبد كان أرضا لحكمه، وأتبع لدينه وأمره، وأبعد عن نهيه وسخطه، وقد سبق في الفصل الأول بيان فضل المعرفة واستلزامها للعبادة ومن أجل العبادات العباداتُ القلبية كالرضا والتسليم للقدر، قال ابن القيم: "من عرف اللَّه صفا له
= وقال عنه ابن حجر: مقبول، التقريب (1336)، انظر تحقيقا لبشار عواد في هامش تهذيب الكمال (2/ 182)، الفرج بعد الشدة (118) رقم (101)، والتنوخي في الفرج بعد الشدة (3/ 358 - 363)، والبيتان في ديوان أبي العتاهية (538).
العيش، وطابت له الحياة. . . وأورثته المعرفة: الحياء من اللَّه، والتعظيم له والإجلال، والمراقبة والمحبة، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره"
(1)
، ووجه هذه المعرفة التي تثمر هذا الرضا هو:"أن يعلم أن منع اللَّه سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء، وابتلاءه إياه عافية، قال سفيان الثوري: منعه عطاء، وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير عبده المؤمن، فمنعه اختيار، وحسن نظر، وهذا كما قال. . . ولكن لجهل العبد وظلمه، لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل، وكان ملائما لطبعه، ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة. . . وهذه كانت حال السلف. . . فالراضي هو الذي يعد نعم اللَّه عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه"
(2)
، وقال: "من صحت له معرفة ربه، والفقه في أسمائه وصفاته، علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب؛ فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فأنظر إلى غارس جنة من الجنات، خبير بالفلاحة، غرس جنة، وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى أثمرت أشجارها، فأقبل عليها يفصل أوصالها، ويقطع أغصانها، لعلمه أنها لو
(1)
روضة المحبين (106).
(2)
مدارج السالكين (2/ 224 - 225).
خليت على حالها، لم تطب ثمرتها، فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة، حتى إذا التحمت بها، واتحدت، وأعطت ثمرتها، أقبل يقلمها، ويقطع أغصانها الضعيفة، التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع، والحديد، لمصلحتها، وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، بل يعطشها وقتا، ويسقيها وقتا، ولا يترك الماء عليها دائما، وإن كان ذلك أنضر لورقها، وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق، فيلقى عنها كثيرا منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد، ويلقى عنها كثيرا من زينتها، وذلك عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان، لتوهمت أن ذلك إفساد لها، وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها. . . فأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم، إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله. . ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم، علما وإرادة وعملا، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم، بموجب علمه، وحكمته، ورحمته، أحبوا أم كرهوا، فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته، فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفى ذلك على الجهال به، وبأسمائه، وصفاته. . . ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة، في جنة لا يشبه فيها إلا نعيم الآخرة. . . وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل
اللَّه، وحكمته، ورحمته، وحسن اختياره، فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى"
(1)
.
(1)
الفوائد (92 - 93)، وانظر مجموع الفتاوى (17/ 27)، وفيض القدير (2/ 108).