الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر النفخ في الصور، وما يكون بعده من الأهوال، فقال:
[سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
يقول الحق جل جلاله: وَاذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل- عليه السلام عن أبى هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ الله تعالى من خلق السموات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرش، حتى يؤمر، قال: قلت: كيف هو؟ قال:
عظيم، والذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض» وفي حديث آخر:«فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة، فيؤمر بالنفخ فيه، فينفخ نفخة، لا يبقى عندها في الحياة أحد، غير من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «1» ، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلا بُعث» . وفي رواية:«فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، فتملأ ما بين السماء والأرض، وتأتي كل روح إلى جسدها، كما تأتي النحل إلى وكرها. وذلك قوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «2» .
قال أبو السعود: والذي يستدعيه النظم الكريم أن المراد بالنفخ هاهنا: النفخة الثانية، وفي الفزع في قوله تعالى:
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعتري الكل عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة، الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب، الضروريين، الجبلين في كل نفس. وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه مضارعاً للدلالة على تحقق وقوعه. هـ. وظاهره أن النفخ مرتان فقط، واعتمده القرطبي وغيره، وصحح ابن عطية أنها ثلاث، ورُوي ذلك عن أبي هريرة: نفخة الفزع وهي فزع حياة الدنيا، وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصعق، ونفخة القيام من القبور.
(1) ، (2) من الآية 68 من سورة الزمر.
وقوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي: ألَاّ يفزع، وهو من ثبّت الله قلبه، فإن قلنا: المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى: هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» وإن قلنا: هي نفخة الصعق، فالمستثنى: قيل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل: الحور وحَملةُ العرش، وإن قلنا: المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى: أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.
ثم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ «2» بصيغة الماضي، أي: وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب، بين يدي الله جل جلاله، والسؤال والجواب. أو: وكل حاضروه، على قراءة إسم الفاعل، وأصله:
آتيوه، حال كونهم داخِرِينَ: صاغرين أذلاء.
وَتَرَى الْجِبالَ حال الدنيا تَحْسَبُها جامِدَةً واقفة ممسّكة عن الحركة، من: جمد في مكانه: إذا لم يبرح. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي: مراً مثل مر السحاب، التي تسيرها الرياح، سيراً حثيثاً، والمعنى: أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لِعظمها، وهي تسير سيراً سريعا، كالسحاب إذا ضربته الرياح، وهكذا الأجرام العظام، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك: الشمس لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها، مع كونها أسرع من الريح.
والذي في حديث أبي هريرة: أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق. ونص الحديث- بعد كلام تقدم: «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها- أي: النفخة- ويطيلها، فيُسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سراباً، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج، وتقلبها الرياح، وهو قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «3» الآية، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين، هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار هاربة، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله: يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ.. الآية «4» فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، لم يروا مثله. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك» .
قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع؟ قال: «أولئك الشهداء» .
(1) من الآية 103 من سورة الأنبياء. [.....]
(2)
قرأ حفص، وحمزة، وخلف:«أتوه» بقصر الهمزة، وفتح التاء، فعلا ماضيا، وقرأ الباقون بالمد وضم التاء «آتوه» اسم فاعل، مضافا للضمير.. انظر الإتحاف (2/ 335) .
(3)
الآية السادسة من سورة النازعات.
(4)
من الآية 33 من سورة غافر.
قلت: ومثلهم الأنبياء والأولياء إذ هم أعظم منهم، وأحياء مثلهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام:«وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وهو عذاب يبعثه الله على شرار خلقه» . وهو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
«1» فيمكثون طويلاً، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فينفخ نفخة الصعق، فيصعق مَن في السموات، ومَن في الأرض، إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا في البرزخ، جاء ملك الموت إلى الجبار، فيقول: قد مات أهل السموات والأرض، إلا من شئتَ، فيقول الله تعالى، وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي القيوم، الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وبقيتُ أنا، فيقول تعالى: فليمتْ جبريل وميكائيل، فينطق الله العرش، فيقول: أيّ رب يموت جبريل، وميكائيل! فيقول: اسكت، إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموتان. ثم يأتي ملك الموت الجبارَ، فيقول: أي رب قد مات جبريل وميكائيل، فيقول- وهو أعلم: من بقي؟ بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي إسرافيل، وبقيتُ أنا. فيقول: ليمتْ حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول: ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب قد مات حملة عرشك، فيقول، وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول: أنت خلق من خلقي، خلقتك لِما رأيتَ، فمتْ، فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كفواً أحد، فكان آخراً، كما كان أولاً، طوى السماء طي السجل للكتاب، فيقول: أنا الجبار، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فلا يجيبه أحد، ثم يقول تعالى: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ثم تُبدل الأرض غير الأرض، والسموات يبسطها بسطاً، ثم يمدها مدّ الأديم العكاظي، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتا.
ثم قال: ثم ينزل ماء من تحت العرش، كمنيّ الرجل، ثم يأمر الله السحاب أن تمطر أربعين يوماً، حتى يكون فوقهم اثني عشر ذراعاً، ويأمر الله تعالى الأجساد أن تنبت كنبات البقل، حتى إذا تكاملت أجسادهم، كما كانت، قال الله تعالى: ليحيَى حملة العرش، فيحيون، ثم يقول الله تعالى: ليحيى جبريل وميكائيل وإسرافيل، فيحيون، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل، فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثم يدعو الله تعالى الأرواح، فيؤتى بها تتوهج أرواح المؤمنين نوراً، والأخرى ظلمة، فيقبضها، ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح، كأنها النحل، وقد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول تعالى: لترجعن كل روح إلى جسدها، فتدخل الأرواح الخياشيم، ثم تمشي في الأجساد، مشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم سراعاً، فأنا أول من
(1) الآيتان: 1- 2 من سورة الحج
تنشق عنه، فتخرجون منها إلى ربكم تنسلون، عراةً، حفاةً، غُرلاً، مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافر: هذا يوم عسير. نقله الثعلبي «1» .
ثم قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ، هو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي: صَنَعَ الله ذلك صُنعاً، على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور، وما ترتب عليه جميعاً. قصد به التنبيه على عِظَم شأن تلك الأفاعيل، وتهويل أمرها، والإيذان بأنها ليست بطريق الإخلال بنظم العالم، وإفساد أحوال الكائنات، من غير أن تدعو إليه داعية، بل هي من بدائع صنع الله تعالى، المبنية على أساس الحكمة، المستتبعة للغايات الجليلة، التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع، على الوجه المتين، والنهج الرصين، كما يُعرب عنه قوله: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي: أحكم خلقه وسوّاه، على ما تقتضيه الحكمة.
وقوله تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ: تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى لبيان أن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها، مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها، على ما هي عليه من الحسن والسوء، وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم.
وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها: بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها، أي: من جاء من أولئك الذين أوتوه بالحسنة فله خير منها، باعتبار أنه أضعفها بعشر، أو: باعتبار دوامه وانقضائها، وعن ابن عباس رضي الله عنه:«الحسنة: كلمة الشهادة» «2» وَهُمْ أي: الذين جاءوا بالحسنات مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ أي: من فزع هائل، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب، بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات. وهو المراد في قوله تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «3» .
وقال ابن جريج: حين يُذبح الموت ويُنادى: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت.
فيكون هؤلاء مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ، أي: يوم إذ ينفخ في الصور وما بعده آمِنُونَ لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلاً. وأما الفزع الذي يعتري كل من السموات ومَن في الأرض، غير ما استثناه الله تعالى، فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة، من معاينة فنون الدواهي والأهوال، ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة، وإن كان آمناً من لحوق الضرر. قال جميعه أبو السعود.
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 182) .
(2)
انظر تفسير الطبري (20/ 22) .
(3)
من الآية 103 من سورة الأنبياء.