الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَعِبْرَةً لَدَلَالَةً واضحة على وجود الصانع القديم، القائم بالأشياء، والمدبر لها بقدرته وحكمته، لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات، حيث ذكر تسبيح مَنْ فى السموات والأرض وما يطير بينهما وخضوعهم له، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار، وتقليب الليل والنهار، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية، تحمل العلوم اللدنية، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً، يُقتطع به صاحبه عن حسه، ويغيبه عن أمسه ورسمه، فترى أمطار العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والفتوحات العرفانية، تخرج من خلاله، أي: من قلب العارف، وهي نتائج الواردات وثمراتها. وفي الحكم:«لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار» .
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بلَيلٍ
…
واستنَارَت، فمَا تَلاها غُرُوبُ
إنَّ شَمْسَ النهار تَغرُبُ بالَّليلِ
…
وشَمسُ القُلوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ
يقلب الله ليل القبض على نهر البسط، ونهار البسط على ليل القبض، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما، ليكون لله، لا لشيء دونه. وبالله التوفيق.
ولمّا ذكر التجليات العلوية ذكر التجليات السفلية، فقال:
[سورة النور (24) : آية 45]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
يقول الحق جل جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي: خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض مِنْ ماءٍ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو: من ماء مخصوص، وهو النطفة،
ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة، فمنها أناسي، ومنها بهائم، ومنها هوام وسباع، وهو كقوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ «1» وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً، وإلَاّ لم تختلف لاتفاق الأصل، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ «2» ونكّره هنا لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء، وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينه وبينها وسائط، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا: أنَّ أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قال النسفي. وعلى الثاني: تكون الآية أغلبية لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر: قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، او على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها، لقلتها. وتذكير الضمير في (منهم) لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة (مَن) . وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول: أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار
(1) من الآية 4 من سورة الرعد.
(2)
من الآية 30 من سورة الأنبياء.