الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: (ويرى) : مرفوع، استئناف، أو منصوب، عطف على (ليجزي) . و (الحق) : مفعول ثان ليرى العلمية.
والمفعول الأول: (الذي أُنزل) وهو ضمير فصل.
يقول الحق جل جلاله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أي: يعلمون الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن هُوَ الْحَقَّ، لا يرتابون فى حقيّته لما انطوى عليه من الإعجاز، وبموافقته للكتب السالفة، على يد مَن تحققت أميته. أو: ليجزي المؤمنين، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق، علماً لا يزاد عليه في الإيقان، لكونه محل العيان، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان. وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وهو دينُ الله، من التوحيد، وما يتبعه من الاستقامة.
الإشارة: أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده، فيسمع كلامه منه، لكن من وراء رداء الكبرياء، وهو رداء الحس والوهم، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عد تلاوته.
قال جعفر الصادق: «لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون» . ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم، فينقلب البكاء سروراً، والقبض بسطاً. وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة، فقال:«كذلك كنا ولكن قست القلوب» «1» فعبَّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى للكفرة، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
(1) راجع التعليق على إشارة الآية 58 من سورة مريم.
قلت: (إذا) : العامل فيه محذوف، دلّ عيه: لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. و (مُمَزَّقٍ) : مصدر، أي: تجددون إذا مزقتم كل تمزيق، و (جديد) : فعيل بمعنى فاعل، عند البصريين. تقول: جَدَّ الثوب فهو جديد، أو بمعنى مفعول، كقتيل، من جد النساج الثوب: قطعه. ولا يجوز فتح (إنكم) للاّم في خبره. و (أَفْترى) : الهمزة للاستفهام، وحذفت همزة الوصل للآستغناء عنها.
يقول الحق جل جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من منكري البعث: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه- مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم- تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: أهو مفترٍ على الله كَذِباً فيما يُنسب إليه من ذلك؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ: جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب: بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم. وكأنه قيل: أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
قال تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أي: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما أينما كانوا، وحيثما ساروا، وجدوهما أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه، من ملكوت الله، ولم يخافوا أن يَخْسِفَ اللهُ بهم في الأرض، أو يسقط عليهم كِسَفاً قطعة، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات، وكفرهم بما جاء به الرسول، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي «يخسف» ، و «يسقط» بالياء «1» لعود الضمير على (الله) في قوله: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ، وقرأ حفص:«كَسَفاً» بالتحريك، جمعاً. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما،
(1) وكذا قوله: (يشأ) . وقرأ الباقون بنون العظمة فى الثلاثة. انظر الإتحاف (2/ 382) .