الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضميرهم للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور مَحْضُ مشيئتِه تعالى، لا أعمالهم المحكية، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم في الدنيا مما يقوم بأمرهم، حين تَبتَّلُوا إلى العبادة، يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون، من غير حَصْرٍ ولا عد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار، ورفعها:
صونها من الأغيار، وتطهيرها من لوث الأكدار، وبُعدها من جيفة الدنيا، التي هي مجمع الخبائث والأشرار، ليُذكَرَ فيها اسم الله، كثيرا، على نعت الحضور والاستهتار، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله، والأبصار عن شهود الله، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله، والقيام بحقوق الله، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، في جنة الزخارف، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف. والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب.
ثم ذكر ضد أهل النور، وهم أهل الظلمة، فقال:
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قلت: «كسراب» : خبر الثاني، وهو: ما يروى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. و (بقيعة) : متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي: كائن بأرض قيعة، أي: منبسطة، و (سحاب ظلمات) : مَنْ جَرَّها: فبالإضافة «1» ، ومن رفعها: فخبر، أي: هي ظلمات.
يقول الحق جل جلاله، في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لا ستوجب الثواب، مثاله: كَسَرابٍ
(1) قرأ البزي (سحاب ظلمات) بالإضافة، وقرأ الجمهور:(سحاب ظلمات) بالتنوين والرفع فيهما. انظر الإتحاف (2/ 299) . [.....]
كفضاء (بقيعَةٍ) بأرض منبسطة، يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ يظنه العطشان ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي: لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي: أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار.
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد في ساعة لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل: هم الذين قال الله فيهم: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «1» ، ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «2» . قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. هـ.
ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ، «أو» : للتنويع، فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، يَغْشاهُ أي: يغشى البحر، أو مَن فيه، أي: يعلوه ويغطيه بالكلية، مَوْجٌ هو ما ارتفع من الماء، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق الموج موج آخر، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ من فوق الموج الأعلى سحاب، ظُلُماتٌ أي: هذه ظلمات ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج، وظلمة البحر، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي: الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة في «لم يرها» أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها. شبّه أعمالهم، في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وخلوها عن نور الحق، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
قال ابن جُزَيّ: لمَّا ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار الأول: يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني: يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال: وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن فى
(1) الآية 3 من سورة الغاشية.
(2)
الآية 104 من سورة الكهف.
وصف النور المذكور قبلها مبالغة. هـ. وقوله: لما ذكر حال المؤمنين، يعني بقوله: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ.. إلخ، الله بقوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ، وقيل: كلا المثالين في الآخرة، يخيبون من نفعها، ويخوضون في بحر ظلمتها.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً في قلبه، من نور توحيده ومعرفته، فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي: من لم يشأ الله أن يهديه لنوره: لم يهتد، وفي الحديث:«خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليها من نوره، فمَن أصابه ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضل» ، وينبغى للقارىء عند هذه الآية أن يقول:(اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً، وأعظم لي نوراً)«1» ، كما في الحديث في غير هذا المحل.
الإشارة: كل مَن لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، أي: يناقشه فيما أراد بعمله، وأهل التوحيد الخاص: الوجود كله، عندهم، كالسراب، يحسبه الناظر إليه شيئاً، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده وحده، وفيه يقول الشاعر:
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ
…
فقَد تَرقَّى عن الحجابِ
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً
…
بِلَا ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ
…
هناك يهدى إلى الصوابِ
فَلا خِطابَ بِه إليهِ
…
وَلا مُشِيرَ إلى الخِطَابِ
ومثال من عكف على دنياه، واتخذ إلهه هواه، كذي ظلمات في بحر لجي، وهو بحر الهوى، يغشاه موج الجهل والمخالفات، من فوقه موج الحظوظ والشهوات، من فوقه سحاب أثر الكائنات، أو: يغشاه موج الغفلات، من فوقه موج العادات، من فوقه سحاب الكائنات، ظلمات بعضها فوق بعض من حب الدنيا، وحب الجاه، وحب الرئاسة، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها.
(1) أخرجه البخاري فى (الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل ح 6316) ، ومسلم فى (صلاة المسافرين، باب الدعاء فى صلاة الليل، 1/ 525- 526، ح 763) ، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.