الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة فاطر
مكية. وآيها ست- أو خمس- وأربعون. ومناسبتها لما قبلها: أن صدرها استدلال على عظم ذاته، وباهر قدرته، وتحقيق رسالة نبيه، بجعل الملائكة رسلا إليه، ففيها إزاحة للشك، وقلع للريب، الواقع فى قلوب الكفرة، الذي ختمت به السورة، فكأنه تعالى حمد نفسه على إظهار شأنه، وإن لم يحمده عتاة خلقه.
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قلت: (أولِي) : اسم جمع، كذُو، وهو بدل من «رسلاً» ، أو نعت له، ومَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ: نعوت لأجنحة، وهو غير منصرف لأنه معدول عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص، أي: منهم مَن له اثنان، ومنهم مَن له ثلاثة، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جل جلاله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، حمد نفسه تعليماً وتعظيماً، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه:«ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها» . قال البيضاوي: من الفطر، بمعنى الشق، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت:
وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف، فنور السموات والأرض من نوره الأزلي، وسره الخفي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى عباده، أي: وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي: منهم ملائكة لهم اثنان لكل واحد جناحان، ومنهم مَن له ثلاثة، ومنهم مَن له أربعة، بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو: يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، يتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها، لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج، وله ستمائة جناح «1» . وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه
(1) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم «آمين» ح 3232) ومسلم فى (الإيمان، باب ذكر سدرة المنتهى 1/ 158، ح 174) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، لكنه ليس فيه «ليلة المعراج» .
صورته التي خلقه اللهُ عليها، فلما رآه كذلك خرّ مغشِياً عليه. وقال: ما كنت أرى شيئاً من الخلق هكذا. فقال له: لو رأيت إسرافيل، إِنَّ له لاثني عشر جناحاً بالمشرق، واثني عشر جناحاً بالمغرب، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى «1» هـ.
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي: يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل: هو الوجه الحسن، والشَعْر الحسن، والصوت الحسن، والحظّ الحسن، والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة العقل، وجزالة في الرأي، وفصاحة في اللسان، وحُسن خلق في المعاشرة، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما يشاء، من زيادةٍ في الخلق، ونقصان فيها، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة: الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام: حمد مطلق، وهو الواقع على عظمة ذاته، من غير أن يكون في مقابلة شيء، وهو قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «2» ، الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «3» ، وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص، وهو قوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً
…
«4» الآية. وحمدٌ وقع في مقابلد نعمة الإيجاد، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. «5» ، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي، كقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ «6» ، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي، أو الإمداد المعنوي، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية، وهو قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ «7» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا.. «8» فهذه أربعة: حمد مطلق، أو مقيد بشأن التنزيه، أو بنعمة الإيجاد، أو الإمداد، وما وقع هنا في إظهار تجلياته، من أرضه وسماواته، ولطائف ملائكته، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال القشيري: يقال: هو الفهم عن الله، أو السخاء والجود، أو:
الرضا بالتقدير، أو: علو الهمة، أو: التواضع في الشرف، أو: العفة في الفقر، أو: الظَرفُ- أي: الظرافة- في الشمائل، أو: أن يكون مُحَبباً في القلوب، أو: خفة الروح، أو: تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان- أي: بالوقوف مع الأكوان- أو: ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين- أي: بأن يكون عبد الله حقيقة-. هـ. ملخصا.
(1) ذكره القرطبي (6/ 5558) عن الزهري.
(2)
من الآية 59 من سورة النمل.
(3)
من الآية 75 من سورة النحل.
(4)
الآية 111 من سورة الإسراء.
(5)
من الآية الأولى من سورة الأنعام.
(6)
الآية 36 من سورة الجاثية.
(7)
الآية الأولى من سورة الكهف.
(8)
من الآية 43 من سورة الأعراف.