الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان فى إبّانه، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قلت: «مُرِيب» : اسم فاعل، من: أراب، أي: أتى بريبة، وأربته: أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد: وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
يقول الحق جل جلاله: وَلَوْ تَرى يا محمد، أو: يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. إِذْ فَزِعُوا حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، فَلا فَوْتَ أي: لا مهرب لهم، أو: فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. وَأُخِذُوا إلى النار مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من المحشر إلى قعر جهنم. أو: ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو: إذ فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
وَقالُوا حين عاينوا العذاب: آمَنَّا بِهِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» أو: بالله، أو: بالقرآن المذكور في قوله: فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي: التناول. من قرأه بالواو «2» فوجهه: أنه مصدر: ناش، ينوش، نوشاً، أي: تناول، وهي لغة حجازية، ومنه: تناوش القوم في الحرب: إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي: ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل: هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول
(1) الآية 46 من السورة. [.....]
(2)
قرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والكسائي (التناوش) بالهمزة، وقرأ الباقون (التناوش) بالواو من غير همز.
الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز: أنه مصدر: تناءش، بمعنى أبطأ، أو:
بعُد، يقال: تناءشت الشيء: أخذته من بعد. والنئيش: الشيء البطيء، كما قال الشاعر:
وجئت نئيشا بعد ما فَاتَكَ الخير «1» .
أي: جئت بطيئاً. وقيل: الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى: ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ حصول العذاب، أو: قبل الموت في الدنيا، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، هو عطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية، أي: وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ عن الحق والصواب، أو: هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله: فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً «2» كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي:
بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ في أمر الرسول والبعث، مُرِيبٍ: موقع للريبة، أو: ذي ريبة، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك، قاله النسفي.
الإشارة: قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف- بعد الموت- عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا: آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يسمع.
(1) عجز بيت، وهو كما فى القرطبي (6/ 5553) :
قعدت زمانا عن طلابك للعلا
…
وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر
(2)
من الآية 12 من سورة السجدة.
قال القشيري: إذا تابوا- وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا- وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه.
فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد:
فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ للبكا
…
فليس لأيام الصفاء رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولاديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.