الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: فجاءته- أي: القلب- إحدى الخصلتين الفناء والبقاء، تمشي على مهل وقدر فإن الوصول إلى المقامات إنما يكون بتدريج، على حسب القَدَر السابق. قالت إحدى الخصلتين: إن ربي يدعوك إلى حضرته ليجزيك أجر ما سقيت، واستعملت في جانب الوصول إلينا. فلما جاءه، أي: وصل إليه، وتمكن منه، وقص عليه القصص، وهو ما جرى له مع نفسه وجنودها من المجاهدات والمكابدات، قال: لا تخف اليوم، حين وصلت إلينا، نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما: يا رب استأجره في العبودية شكراً، إن خير من استأجرت القوي الأمين لأن عمله بالله، محفوفاً برعاية الله، قال: إني أريد أن أعطيك إحدى الخصلتين، إما الإقامة في الفناء المستغرِق، أو الرجوع إلى البقاء المستفيق، لتقوم بالأدب، على ان تخدم ثماني حجج، فإن أتممت عشراً، لزيادة التمكين، فمن عندك، فأقل خدمة المريد للشيخ ثماني سنين، ونهايتها نهاية التمكين. قال الورتجبي: لأن شعيباً، عليه السلام رأى بنور النبوة أن موسى عليه السلام يبلغ درجة الكمال في ثماني حجج، ولا يحتاج إلى التربية بعد ذلك، ورأى أن كمال الكمال في عشر حجج لأنه رأى أن بعد العشرة لا يبقى مقام الإرادة، ويكون بعد ذلك حراً، ولذلك قال: وما أريد أن أشق عليك. هـ.
ثم ذكر رجوع موسى إلى مصر، فقال:
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)
يقول الحق جل جلاله: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ، قال صلى الله عليه وسلم:«قضى أبعدهما وأطيبهما» «1» ، وفي رواية:«أبرهما وأوفاهما» ، وَسارَ بِأَهْلِهِ أي: امرأته، نحو مصر، قال مجاهد: ثم استأذن موسى أن يزور
(1) أخرجه البخاري فى (الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد ح 2684) ، عن ابن عباس، موقوفا. وأخرجه البزّار (كشف الأستار 3/ 63) ، والحاكم فى (التفسير 2/ 407) ، والطبري (20/ 68) ، عن عكرمةُ، عن ابن عباس مرفوعا. وانظر: الفتح السماوي (2/ 893- 894) .
أهله بمصر، فأذن له، فسار بأهله فى البَرِّيَّةِ، فأوى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في ليلة مظلمة شديدة البرد، وكان أخذ على غير طريق، يخاف ملوك الشام- قلت: ولعلهم كانوا من تحت يد فرعون- فأخذ امْرَأَتَهُ الطَّلقُ، فقدح زنده، فلم يور، فآنس من جانب الطور ناراً. هـ.
وقال ابن عطاء: لما تم أجل المحنة، [ودنت]«1» أيام الزلفة، وظهرت أنوار النبوة، سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه. هـ. آنَسَ أي: أبصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي: من الجهة التي تِلْوَ الطورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لأنه كان ضل عنها، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ أي: قطعة وشُعلة منها، والجُذوة- مثلثة الجيم: العُود الذي احترق بعضه، وجمعه:«جِذّى» . لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها. والاصطلاء على النار سُنَّة المتواضعين. وفي بعض الأخبار: «اصطلوا» فإن الجبابرة لا يصطلون» .
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ بالنسبة إلى موسى، أي: عن يمين موسى، فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ بتكليم الله تعالى فيها، مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من «شاطئ» بَدَلَ اشتمالٍ، أي: من ناحية الشجرة، وهى العنَّاب، او العوسج «2» ، أو: سمرة «3» . وقال وهب: عُليقاً «4» . أَنْ يا مُوسى. أي: يا موسى، أو: إنه يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ، قال البيضاوي: هذا، وإن خالف ما في «طه» و «النمل» لفظاً، فهو طبْقُهُ في المقصود. هـ.
قال جعفر الصادق: أبصر ناراً، دلته على الأنوار لأنه رأى النور على هيئة النار، فلما دنا منها شملته أنوار القدس، وأحاطت به جلابيب الأنس، فخاطبه الله بألطف خطاب، واستدعى منه أحسن جواب، فصار بذلك مُكَلَّماً شريفاً، أُعْطِيَ ما سأل، وأمن ممن خاف. هـ.
قال القشيري: فكان موسى عند الشجرة، والنداء من الله لا منها، وقد حصل الإجماع أن موسى، تلك الليلة، سمع كلام الله، ولو كان النداء من الشجرة لكانت المتكلمة هي، فلأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء منها، وإلا فنحن نجوز أن يخلق الله نداء في الشجرة. هـ. قلت: وسيأتي في الإشارة ما لأهل التوحيد الخاص، وما قاله- هو مذهب أهل الظاهر.
(1) فى الأصول [ودنا] .
(2)
شجر من فصيلة الباذنجيات، شائك الأغصان واحدته: عوسجة. انظر اللسان (4/ 2937. مادة عسج) .
(3)
السمرة: شجرة من العضاه، وهى من جيد الخشب، والجمع سمر وسمرات. انظر اللسان (3/ 2092. مادة سمر) .
(4)
العليق. شجر من شجر الشوك لا يعظم. وإذا نشب فيه شىء لم يكن يتخلص منه من كثرة شوكه. ولذلك سمى عليقا. انظر اللسان (4/ 3074. مادة علق) .
ثم قال تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ، أي: نودي: أن ألقِ عصاكَ، فألقاها، فقلبها الله ثعباناً، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ حية رقيقة. فإن قيل: كيف قال في موضع: (كأنها جان)، وفي أخرى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «1» ؟ قلت: هي في أول أمرها جان، وفي آخر أمرها ثعبان لأنها كانت تصير حية على قدر العصا، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان، أو: يُريد في سرعة الجان وخفته، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع عقبه. فقيل له: يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ، أي:
أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
واسْلُكْ: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ جيب قميصك تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها شعاع كشعاع الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ، أي: الخوف، فيه لغات:«الرُّهبُ» ، بفتحتين، وبالفتح والسكون، وبالضم معه، وبضمتين. والمعنى: واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية، وعن ابن عباس رضي الله عنه:(كل خائف، إذا وضع يده على صدره، ذهب خوفه)«2» . وقيل:
المراد بضم يده إلى جناحه تجلده، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما.
فَذانِكَ أي: اليد والعصا، ومن شدد فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف، بُرْهانانِ أي: حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً لإنارتها، من قولهم: بَره الشيء: إذا ابيض، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ: أي: بيضاء.
مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي: أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ: خارجين عن الحق، كافرين بالله ورسوله.
الإشارة: قد تقدم في سورة «طه» «3» بعض إشارتها. ويؤخذ من الآية أن تزوج المريد، بعد كمال تربيته، كمال، وأما قبل كماله: فإن كان بإذن شيخه فلا يضره. وربما يتربى له اليقين أكثر من غيره. قوله تعالى: وَسارَ بِأَهْلِهِ قال الورتجبي: افهم أن مواقيت الأنبياء والأولياء وقت سير الأسرار من بدء الإرادة إلى عالم الأنوار. هـ.
وقوله تعالى: آنَسْتُ ناراً قال الورتجبي: الحكمة في ذلك: أن طبع الإنسانية يميل إلى الأشياء المعهودة، لذلك تجلى النور في النار لاستئناسه بلباس [الاستئناس]«4» ، ولا تخلو النار من الاستئناس، خاصة في الشتاء، وكان شتاءً، فتجلى الحق بالنور في لباس النار لأنه كان في طلب النار، فأخذ الحق مراده، وتجلى مِنْ حيث إرادته، وهو سنة الله تعالى. هـ.
(1) من الآية 143 من سورة الأعراف.
(2)
ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 207) .
(3)
راجع المجلد الثالث، ص: 382- 383.
(4)
فى الورتجبي: «الالتباس» .