الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع بقلبه إلى ربه، مطيع له تعالى، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، فيعتبر، ويعلم أنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأجرام العظام، قادر على إحياء الأموات وبعثها، وحسابها وعقابها.
الإشارة: يقول شيوخ التربية: بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة: هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة؟ بل الذي لا يؤمنون بالنشأة الآخرة- وهي حياة الروح بمعرفة الله- في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يهدد به منكر والبعث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان، احتجاجاً على ما منح محمد- عليه الصلاة والسلام من الرسالة والوحي، ردًّا لقولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره، فقال:
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قلت: (يا جبال) : بدل من (فضلاً)، أو يقدر: وقلنا. و (الطير) : عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي: مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو:
فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه:
أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب، أي: الترجيع، وقيل: من الإياب بمعنى الرجوع، أي: ارجعي معه بالتسبيح. وَالطَّيْرَ أي: أوبي معه، أو: وسخرنا له الطير تؤب معه. قال وهب: فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم «1» .
(1) انظر تفسير البغوي (6/ 388) .
قال القشيري: يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام: كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال: يا رب وكيف تكون الزلة مباركة؟ فقال: كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. هـ. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال: آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة.
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي: جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل: سبب لينه له: أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه: ما يقول الناس في داود؟ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال: نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه: يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح «1» .
ويقال: كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل:
كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت: ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد. هـ. وقيل:
لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة.
وأمرناه أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي: دروعاً واسعةً تامة، من: السبوغ، بمعنى الإطالة، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق، أو تؤذي لابسها. والتقدير: التوسُّط في الشيء، والسرد: صنعة الدروع، ومنه قيل لصانعه: السراد والزراد. وَاعْمَلُوا صالِحاً شكراً لما أُسدي إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح: ما يصلح للقبول لإخلاصه واتقائه، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
الإشارة: الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه. «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك» . ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي: تتقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فى الظاهر: الحديد
(1) ذكر البغوي (6/ 388) وابن كثير (3/ 527) .