الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القدس، فحيئنذ يحرس منه، لقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1» . وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى: إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وما سلَّطه علهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي: وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان تسلط إبليس جله من الشرك، الذي زيّنه لهم، رده بقوله:
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قلت: حذف مفعولي زعم، أي: زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جل جلاله: قُلِ لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: زعمتموهم آلهة، فعبدتموهم من دون الله، من الأصنام والملائكة، وسميتموهم باسْمِهِ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً. ثم ذكر عجزهم فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر، ونفع أو ضر فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي: وما لهم في هذين العالَمين العلوي والسفلي، من شرك في الخلق، ولا في المُلك، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ معين يعنيه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه؟
ثم أبطل قولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «2» بقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ تعالى في الشفاعة، ممن له جاه عنده، كالأنبياء، والملائكة، والأولياء، والعلماء الأتقياء، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ
(1) الآية 42 من سورة الحجر.
(2)
من الآية 18 من سورة يونس.
أبو عمرو «1» والأخوان بالبناء للمفعول، أي: إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع، قطعاً لمكانها من الله، فقال: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ، فحتى: غاية لمحذوف، أي: وكيف تشفع قبل الإذن، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله، إذا سمعوا الوحي صعقوا، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي: كشف الفزع عن قلوبهم قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ من الوحي؟
قالُوا الْحَقَّ، فمَن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي: إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السموات منه رَجْفةٌ- أو قال: رَعْدَةٌ شديدةٌ- خوفاً من ذلك، فإذا سمع أهل السموات صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجداً، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء، إلى أن ينزل بالوحي، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه، ثم قالوا: ماذا قال ربكم؟ فيقول جبريل: قال الحقَّ «2» . نصب المفعول بقالوا، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى.
ثم قال: وفي الحديث: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة، كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، حتى يأتيهم جبريل، فيفزغ عن قلوبهم، - أي: يكشف- وبخبرهم الخبر، ثم قال «3» : وقيل المعنى: أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن، ولا يشعر به إلا المقربون لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم في الشفاعة؟ قالوا الحق، أي: أذن فيها. هـ. ومثل هذا لابن عطية، وتبعه ابن جزي، قال:
الضمير في «قلوبهم» ، وفي «قالوا» للملائكة. فإن قيل: كيف ذلك، ولم يتقدم لهم ذكر؟ فالجواب: أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة. هـ.
وقرأ يعقوب وابن عامر «فَزع» بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة، أي: سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم، مِثل: قردت البعير: إذا أزلت قراده، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي:
المتعالي عن سمة الحدوث، وإدراك العقول، الكبير الشأن، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
(1) فى الأصول [ابن عمرو] .
(2)
أخرجه الطبري (22/ 91) والبغوي فى التفسير (6/ 398) والبيهقي فى الأسماء والصفات (1/ 326) وابن أبى عاصم فى السنّة (1/ 227) من حديث النواس بن سمعان.
(3)
أي: الكواشي.