الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحال أولئك المهلكين، ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول، فيؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله، كي لا يحل بهم ما حلّ بأولئك، أو: إن فيما فُصل من القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه، من غير أن يسمعها من أحد، لآية عظيمة دالة على ان ذلك بطريق الوحي الصادق، موجبة للإيمان بالله تعالى، وتصديق من جاء بها وطاعته.
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: وما كان اكثر هؤلاء المكذبين الذين سمعوا قصصهم منه- عليه الصلاة والسلام مؤمنين، فلم يقيسوا حاله صلى الله عليه وسلم بحال موسى، وحال أنفسهم بحال أولئك المهلَكين، ولم يتدبروا فى حكايته صلى الله عليه وسلم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، مع كونه أمياً لا يقرأ، وكل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان، قطعاً لانهماكهم في الغفلة، فكان على هذا، زائدة، كما هو رأي سيبويه، فيكون كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ «1» وهو إخبار منه تعالى بعدم إيمانهم في المستقبل، أو: وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين بموسى عليه السلام، قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير رجل وامرأتين حزقيل المؤمن من آل فرعون، وآسية امرأة فرعون، ومريم بنت ياموشى، التي دَلَّتْ على عظام يوسف. هـ.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يريد من الأمور، التي من جملتها: الانتقام من المكذبين، الرَّحِيمُ البالغ في الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعاجل عقوبتهم، أو: العزيز بالانتقام من أعدائه، الرحيم بالانتصار لأوليائه. جعلنا الله من خاصتهم بمنِّه وكرمه، آمين.
الإشارة: قوله تعالى: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ: اعلم أن المعية تختلف باختلاف المقام، فالمعية، باعتبار عامة الخلق، تكون بالإحاطة والقهرية والعلم والإقتدار، وباعتبار الخاصة تكون بالحفظ والرعاية والنصر والمعونة. فمن تحقق أن الله معه بعلمه وحفظه ورعايته اكتفى بعلمه، وفوض الأمر إلى سيده، وكلما قوي التفويض والتسليم دلّ على رفع المقام، ولذلك فضَّل ما حكاه الحق تعالى عن حبيبه بقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا «2» ، على ما حكى عن كليمه بزيادة قوله: سَيَهْدِينِ فتأمل. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لما فيها من الرد على أهل الشرك تقبيحا لما عليه قريش والعرب، مع كونهم من ذريته، فقال:
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 82]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
(1) من الآية 103 من سورة يوسف.
(2)
كما جاء فى الآية 40 من سورة التوبة. [.....]
يقول الحق جل جلاله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على المشركين نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي: خبره العظيم الشأن، ولم يأمر في قصص هذه السورة بتلاوة قِصَّةٍ إلا في هذه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمر التوحيد، الذي دلت عليه. إِذْ قالَ أي: وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ أي: أيُّ شيء تعبدون؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عَبَدة الأصنام، لكنه سألهم ليُعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة، قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً، وجواب ما تَعْبُدُونَ: هو قولهم: أَصْناماً لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة، فكان حق الجواب أن يقولوا: أصناماً، كقوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «1» ، وكقوله تعالى: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ «2» . لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها، فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أي: فنقيم على عبادتها طول النهار. وإنما قالوا: فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. أو:
يراد به الدوام.
قالَ إبراهيمُ عليه السلام: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أي: هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم، على حذف مضاف، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إن عبدتموها، أَوْ يَضُرُّونَ أو يضرونكم إن تركتم عبادتها إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر؟ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فاقتدينا بهم. اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر من السمع، والمنفعة، والمضرة بالمرة. واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء.
قالَ إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي: أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ حق الإبصار، أو حق العلم، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي: فاعلموا أنهم أعداء لي، لا أحبهم ولا يحبونني، أو: لو عبدتموهم لكانوا أعداء لي يوم القيامة، كقوله: سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «3» ، وقال الفراء: هو من المقلوب، أي: فإني عدو لهم، والعدو يجيء بمعنى الواحد والجماعة لأنه فَعُولٌ، كصبور. وفي قوله: عَدُوٌّ لِي، دون «لكم» زيادةُ نصحٍ، لكونه أدعى لهم إلى القبول، ولو قال: فإنهم عدو لكم، لم يكن بتلك المثابة، ولم يقبلوه، إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ: استثناء منقطع، أي: لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو
(1) من الآية 219 من سورة البقرة.
(2)
من الآية 23 من سورة سبأ.
(3)
من الآية 82 من سورة مريم.
حبيب لي. وأجاز الزَّجَّاجُ أن يكون متصلاً، على أن الضمير لكل معبود، وكان من آبائهم من عَبَد الله تعالى، وهم أيضاً كانوا يعبدون الله مع أصنامهم.
ثم وصف الربّ تعالى بقوله: الَّذِي خَلَقَنِي بالتكوين في القرار المكين، فَهُوَ يَهْدِينِ وحده إلى كل ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدين والدنيا، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح، متجددة على الاستمرار، كما ينبئ عنه صيغة المضارع. وعبَّر بالاستقبال، مع سبق الهداية في الأزل لأن المراد ما ينشأ عنها، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم الأكمل، أو: والذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خُلَّتِهِ. ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو، بخلاف الهداية والإطعام والسقي، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين، ولذلك أكده بهو ليخصه به تعالى.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي لا غيره، أضاف الإطعام إلى مُولي الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأنعام.
وَهو أيضاً الذي يَسْقِينِ أي: يرويني بمائه. وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى، مستقل في استيجاب الحكم. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ: عطف على يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، ونظم معهما في سلك الصلة بموصول واحد لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب في العادة، غالباً.
وقال في الحاشية: ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر، وهو الغذاء والشراب، ولمَّا كان ذلك مبنياُ على غلبة إحدى الكيفيات على الآخر، بزيادة الغذاء أو نقصانه، فيحدث بعد ذلك مرض، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم. هـ. ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى، مع أنهما منه تعالى لمراعاة حسن الأدب، كما قال الخضر عليه السلام: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «1» ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما «2» .
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، ولم يقل: وإذا مت لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى. وأيضاً: الموت والإحياء من كمال الكمال لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء، أو: الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي أي: في مغفرته لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، ذكره عليه السلام هضماً لنفسه، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي، ويكونوا على حذر منها، وطلب مغفرته لما يفرط منهم. وقال أبو عثمان: أخرج سؤاله على حد الأدب، لم يحكم على ربه بالمغفرة، ولكنه طَمِعَ طَمَعَ العبيد في مواليهم، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئاً إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئاً، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه. هـ.
(1) من الآية 79 من سورة الكهف.
(2)
من الآية 82 من سورة الكهف.
وقيل: أشار إلى قوله: إِنِّي سَقِيمٌ «1» فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «2» وقوله في سارّة: «هي أختي» حذراً من الجبار.
وفيه نظر لأنها مع كونها معاريض، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار، إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه في أول أمره. وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين، مع كونها إنما تُغفر في الدنيا لأن أثرها إنما يظهر يومئذٍ، ولأن في ذلك تهويلاً له، وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه، إن لم يغفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيمياً حنيفياً، فتنبذ جميعَ الأرباب، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب، من العشائر والأصحاب، وتقول لمن عكف على متابعة هواه، ولزم الحرص على جمع دنياه، هو ومن تقدمه: أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني لعبوديته، فهو يهدين إلى معرفته، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان، ويسقيني من شراب خمرة العيان، وإذا مرضتُ بالذنوب فهو يشفين بالتوبة، أو: وإذا مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها. أو:
إذا مرضت برؤية السِّوى، فهو يشفين بالغيبة عنه، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا، ويجعلني من المقربين يوم الدين. وقال ذو النون رضي الله عنه: يطعمني طعام المعرفة، ويسقيني شراب المحبة، ثم قال:
شَرَابُ المَحَبَّةِ خَيْرُ الشَّرابْ
…
وكُلُّ شرابٍ سواه سَرَابْ
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه: إن لله شراباً، يقال له: شراب المحبة، ادخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، وإذا سكروا طاشوا، وإذا طاشوا طاروا، وإذا طاروا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. هـ. قلت: شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة فى الله، بدليل قول ابن الفارض رضي الله عنه:
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً
…
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيكَ صورتي.
وقال الجنيد رضي الله عنه: يُحشر الناس يوم القيامةِ عراة، إلا من لبس ثياب التقوى، وجياعاً إلا من أكل طعام المعرفة، وعطاشاً إلا من شرب شراب المحبة. هـ. وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين، كما قال صلى الله عليه وسلم، حين كان يواصل:«إني أبَيتُ عند ربي يُطعمني ويسقين» «3» .
قال أبو بكر الوراق في قوله تعالى: الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي: يُطعمني بلا طعام، ويسقيني بلا شراب. قال: ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، فرمى بِقِرْبَتِهِ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة، فسقاه، قال أنس:
فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة، لم يأكل ولم يشرب على شهوة. هـ.
(1) من الآية 89 من سورة الصافات.
(2)
من الآية 63 من سورة الأنبياء.
(3)
أخرجه البخاري فى (الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، ح 1965) ومسلم فى (الصيام، باب النهى عن الوصال فى الصوم، 2/ 774، ح 1103) من حديث أبى هريرة، بدون لفظ «عند ربى» وجاء هذا اللفظ فى رواية عند الإمام أحمد فى المسند (2/ 253) .