الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستوى عندك من يمدحك ويذمك، ويعطيك ويمنعك، ومن يؤذيك وينفعك، ومن يشدد عليك ويوسع، فلا أشك في كمالك. هـ.
فإن قلت: لِمَ ذكر الحق، جل جلاله، الاستواء في حق سيدنا موسى، ولم يذكره في حق نبيه يوسف- عليهما السلام؟ فالجواب: أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال، فاحتاج إلى تربية وتهذيب، بعد كمال الأشد، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به، فلذلك ذكره فى حقه. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى:
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 21]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَاّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قلت: جملة (يسعى) : حال من (رجل) لأنه وصف بالجار.
يقول الحق جل جلاله: فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ أي: مصر خائِفاً على نفسه من قتله قَوَداً بالقبطي، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية، يَتَرَقَّبُ: ينتظر الأخبار عنه، أو ما يقال فيه، أو يترصد الاستفادة منه. وقال ابن عطاء: خائفاً على نفسه، يترقب نصرة ربه، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ: يستغيثه، مشتق من الصراخ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة. والمعنى: أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر، قالَ لَهُ مُوسى أي: للإسرائيلي: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي:
خال عن الرشد، ظاهر الغي، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك. قال ابن عباس: أُتِي فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً، فالقصاص، فقال: ابغُوني القاتل والشهود، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد،
فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر، يريد أن يسخره، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني، فوافق موسى نادماً على القتل، فقال للإسرائيلي: إنك لغوي مبين «1» .
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي بالقبطي الذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى وللإسرائيلي لأنه ليس على دينهما، أو: لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، أي: فلما مدّ موسى يده ليبطش بالفرعوني، خشي الإسرائيلي أن يريده، حين قال: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، فقال: يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ، يعني: القبطي، أَنْ ما تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالاً بالغضب، فِي الْأَرْضِ أرض مصر، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ في كظم الغيظ.
وقيل: القائل: يا مُوسى أَتُرِيدُ
…
إلخ، هو القبطي، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس، فأمسك موسى عنه، ثم أخبر فرعون بذلك فأمر بقتل موسى.
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من آخرها، واسمه:«حزقيل بن حبورا» ، مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، يَسْعى: يُسرع في مشيه، أو: يمشي على رجله، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ، أي:
يتشاورون في قتلك، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك. والائتمار: التشاور، فَاخْرُجْ من المدينة، إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، فاللام في (لك) : للبيان، وليس بصلة لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور، فَخَرَجَ مِنْها من مصر خائِفاً يَتَرَقَّبُ: ينتظر الطلب ويتوقعه، قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قوم فرعون. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية دليل على أنَّ الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية لأنه أمر جِبِلِّي، لكنه يخف ويهون أمره، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك، يفرّ مِن الله إلى الله، ولا ينافي التوكل، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج، عند تلميذه حبيب العجمي. وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية، كأكل آدم من الشجرة، كان سبباً في نيل الخلافة، وعُمْرَةِ الأرض، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار، والحاصل: أن مَن سبقت له العناية، ونال فى الأزل مقام المحبوبية
(1) ذكره البغوي فى تفسيره (6/ 198) .