الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: أصل نشأة البشرية من الطين، وأصل الروح من نور رب العالين. فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين، فكان همها الطين، وهوت إلى أسفل سافلين، فلا تجد فكرتها وحديثها، في الغالب، إلا في عالم الحس، ويكون عملها كله عَمَلَ الجوارح، يفنى بفنائها. وإذا غلبت الروح على الطينة وذلك بدخول مقام الفناء، حتى تستولي المعاني على الحسيات. وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد، وعملها كله قلبي وسري، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، يبقى مع الروح ببقائها، يجري عليها بعد موت البشرية، ويبعث معها، كما تقدم في الحديث: (يموت المرء
…
) إلخ.
قال القشيري: يقال: الأصل تُربة، ولكن العِبرَة بالتربية لا بالتربة. هـ. قلت: إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية، ثم قال: اصطفى الكعبة، فهي خير من الجنة، مع أن الجنة جواهر ويواقيت، والكعبة حجر ومدر، أي:
كذلك المؤمن الكامل، وإن كان أصله من الطين، فهو أفضل من كثير من العوالم اللطيفة. ثم قال في قوله تعالى:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً.. الآية: رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل، وربط الشكلَ بالشكل، وجعل سكونَ البعض إلى البعضِ، وذلك للأشباح والصُّورَ، والأرواح صحِبت الأشباح كرهاً لا طوعاً، وأما الأسرار فمُعْتَقَةٌ، لا تساكن الأطلال، ولا تتدنس بالأغيار. هـ.
قلت: وكأنه يُشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية، لا روحانية، ولا سرية إذ الروح والسر لا يتصور منهما ميل إلى غير أسرار الذات العلية إذ محبة الحق جذبتها عن الميل إلى شيء من السّوى.
واختلف الصوفية: هل تُخِلُّ هذه المودة التي بين الزوجين بمحبة الحق، أم لا؟ فقال سهل رضي الله عنه: لا تضر الروح لقوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إلي من دنياكم ثلاث..» «1» فذكر النساء، إذا كان على وجه الشفقة والرحمة، لا على غلبة الشهوة. وعلامة محبة الشفقة: أنه لا يتغير عند فَقْدها، ولا يحزن بفواتها. وهذا هو الصحيح. والله تعالى أعلم. «2»
[سورة الروم (30) : الآيات 22 الى 25]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
(1) لفظ «ثلاث» لم يرد- مطلقا فى روايات الحديث الصحيحة. قال الحافظ ابن حجر: وليس فى شىء من طرقه «لفظ ثلاث» وراجع تخريج هذا الحديث الشريف عند إشارة الآية 45 من سورة العنكبوت.
(2)
انظر: مجمع الأمثال للميدانى 1/ 129.
قلت: (يُريكم البرق) : فيه وجهان، أحدهما: إضمار «أن» كما في حرف ابن مسعود، والثاني: تنزيل الفعل منزلة المصدر، كما قيل في قولهم، في المثل:«تَسْمعَ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ من أن تراه» . أي: إن تسمع، أو: سماعك.
و (خوفا وطعما) : مفعولان له على حذف مضاف، أي: إرادة خوف، وإرادة طمع، أو: على الحال، أي: خائفين وطامعين. و (إذا دعاكم) : شرطية، و (إذا) ، الثانية فجائية، نابت عن الفاء. و (من الأرض) : يتعلق بدعاكم.
يقول الحق جل جلاله: وَمِنْ آياتِهِ الدالة على باهر قدرته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال القشيري: السموات في علوِّها، والأرض في دنوِّها، هذه بنجومها وكواكبها، وهذه بأقطارها ومناكبها، هذه بشمسها وقمرها، وهذه بمائها ومدرها، واختلاف لغات أهلها في الأرض، واختلاف تسبيح الملائكة- عليهم السلام الذين هم سكان السماء. هـ. وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ باختلاف اللغات، وبأجناس النطق وأشكاله، وَأَلْوانِكُمْ، كالسواد والبياض وغيرهما، حتى لا تكاد تجد شخصين متوافقين إلا وبينهما نوع تخالف في اللسان واللون، وباختلاف ذلك وقع التعارفُ والتمايز، فلو توافقت وتشاكلت لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت المصالح. وفي ذلك آية بينة، حيث وُلدوا من أب واحد، وهم على كثرتهم متفاوتون. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بفتح اللام وكسره «1» . ويشهد للكسر قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «2» .
قال القشيري: واختصاص كلِّ شيء من هذه ببعض جائزات حكمها شاهدٌ عَدْلٍ، ودليلٌ صِدْقٍ، يناجي أفكار المستيقظين، وتنادي على أنفسها: أنها، بأجمعها، بتقدير العزيز العليم. هـ.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، أي: منامكم بالليل، وابتغاؤكم من فضله بالنهار، أو: منامكم في الزمانين، وابتغاؤكم من فضله فيهما، وهو حسن لأنه إذا طال النهار يقع النوم فيه، وإذا طال الليل يقع الابتغاء فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر، بآذان واعية. قال القشيري:
غَلَبةُ النوم لصاحبه من غير اختيار، وانتباهُه بلا اكتساب، يدلُّ على موته ثم بَعْثِهِ، ثم في حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه يدل على حاله في قبره. الله أعلمُ كيف حاله، في أمره، فيما يلقاه من خيره وشره. هـ. «3»
(1) قرأ حفص: بكسر اللام قبل الميم، جمع «عالم» ، ضد الجاهل، وقرأ الباقون: بفتح اللام جمع «عالم» . انظر الإتحاف (2/ 356) .
(2)
من الآية 43 من سورة العنكبوت.
(3)
بالمعنى.
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، أي: خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث، أو: خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطراً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: يتفكرون بعقولهم.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ بغير عمد وَالْأَرْضُ على ماء جماد بِأَمْرِهِ أي: بإقامته، أو: تدبيره وقدرته. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ للبعث دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من قبوركم. وسبك الآية: ومن آياته قيام السماوات والأرض، واستمساكها بغير عمد، ثم إذا دعاكم دعوة واحدة، يا أهل القبور، خرجتم بسرعة.
وإنما عطف هذا بثم بياناً لعِظَم ما يكون من ذلك الأمر، وإظهار اقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور، قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر، كقوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» .
تنبيه: عبّر عن مودة الزوجين بيتفكرون لأن المودة قلبية، لا تُدْرَكُ إلا بتفكر القلب، وعبّر عن خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان بالعالِمين لأن أمر ذلك يدركه كل أحد، ممن له عقل أو علم، وعبّر عن النوم واليقظة بيسمعون لأن من كان في الغفلة لا يسمع أمثال هذه المواعظ، وإنما يسمعها مَنْ كان متيقظاً، وعبّر عن إظهار البرق، وإنزال المطر، وإحياء الأرض، بيعقلون لأن أمر البرق وما معه يبصره كل من له مسكة من عقل سليم، ويعلم أنه من الله بلا واسطة. والله تعالى علم.
الإشارة: ما نُصِبَتْ هذه الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها، فما هذه الأكوان الحسية إلا تجليات من تجليات الحق، ومظاهر من مظاهره، وأنوار من أنوار ملكوته، متدفقة من بحر جبروته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. لكن لا يعرف هذا إلا العارفون بالله، وأما غيرهم فحسبهم أن يستدلوا على عظمة خالقها، وباهر قدرته وحكمته، فيقوي إيمانهم ويشتد إيقانهم.
قال في الإحياء: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنْه جلال الله مُحال، وكلما كثرت المعرفة بالله سبحانه، وبأفعال مملكته، وأسرار مملكته، وقويت، كثر النعيم في الآخرة وعَظُم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحَسُن. وقال أيضاً، في كتاب شرح عجائب القلب: ويكون سعة ملك العبد في الجنة بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله سبحانه، ومن صفاته وأفعاله. هـ.
ومن آياته خلق سماوت أرواحكم، وأرض نفوسكم، لتقوم الأرواح بشهود عظمة الربوبية، والنفوس بآداب العبودية، واختلاف ألسنتكم فبعضها لا تتكلم إلا في الفَرْق، وبعضها إلا في الجمع. وألوانكم بعضها ظهر فيها
(1) من الآية 68 من سورة الزمر.