الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العنكبوت
مكية، إلا صدرها العشر الآيات، فإنها نزلت بالمدينة فى شأن من كان من المسلمين بمكة، وإلا قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إلى: الْمُنافِقِينَ «1» فإنها نزلت فى المتخلفين عن الهجرة. وهى كالتعليل لخاتمة ما قبلها من البشارة بالنصر لأنه لا يكون في الغالب إلا بعد الامتحان، كما قال تعالى:
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3)
قلت: الحسبان: قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن، بخلاف الشك، فهو الوقوف بينهما. والعلم: هو القطع بأحدهما، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل، فلا أقول: حَسِبْتُ زيداً، وظننت الفرس، بل حسبت زيداً قائماً، والفرس جواداً. والكلام الدال على المضمون، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله:
وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أي: أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا: آمنا.
يقول الحق جل جلاله: الم الألف: لوحدة أسرار الجبروت، واللام: لفيضان أنوار الملكوت، والميم: لاتصال المادة بعالم الملك. فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ليظهر صدقه أو كذبه، وهذا معنى قوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أي: أظن الناس أَنْ يُتْرَكُوا غير- مفتونين ومختَبَرِين، أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ليظهر الصادق من الكاذب، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وبالفقر، والقحط، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس، وإذاية الخلق ليتميز المخلص من المنافق، والثابت في الدين من المضطرب فيه، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان، وإن كان عن خلوص قلب، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود فى العذاب، وما
(1) الآيات: 9- 11.
ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان.
رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جزعوا من أذى المشركين، وضاقت صدورهم من ذلك، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين. فنزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً لهم.
قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنواع المحن فمنهم من كان يُوضع المنشار على رأسه، فَيُفْرَقُ فرقتين، وما يصرفه ذلك عن دينه، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد، ومنهم من كان يُطرح في النار، وما يصده ذلك عن دينه. فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بذلك الامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان بالثبات، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالرجوع عنه.
ومعنى علمه تعالى به، أي: علم ظهور وتمييز. والمعنى: ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب، في الدنيا والآخرة. قال ابن عطاء: يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء، فمن شكر في أيام الرخاء، وصبر في أيام البلاء، فهو من الصادقين، ومن بطر في أيام الدنيا، وجزع في أيام البلاء، فهو من الكاذبين. هـ.
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في أوليائه: أن يمتحنهم في البدايات، فإذا تمكنوا من معرفة الله، وكمل تهذيبهم، أعزهم ونصرهم، وأظهرهم لعباده. ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول، حتى يلقوه على ذلك وهم عرائس الملكوت، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه. والامتحان يكون على قدر المقام، وفي الحديث:«أشدُّ الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ، فإن كان في دينه صُلْباً، اشتد بلاؤُهُ، وإن كان في دينِه رقَّةٌ، ابتلى على قَدرِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا: نبي أو صفي» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الصالحون. لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ، ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء» «2» . من الجامع. والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه الترمذي فى (الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، 4/ 520، ح 398) ، وابن ماجه فى (الفتن، باب الصبر على البلاء، 2/ 1334، ح 4023) ، والإمام أحمد فى المسند (1/ 174) من حديث مصعب بن سعد، بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2)
أخرجه بنحوه ابن ماجه فى الموضع السابق ذكره. (4/ 1335، ح 4024) وابن أبى الدنيا فى (المرض والكفارات/ 1) ، والحاكم (4/ 307) وصححه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقوله صلى الله عليه وسلم:«يحوّيها» فى النهاية: التحوية: أن يدير كساء حول سنام البعير، ثم يركبه، والاسم: الحويّة.
انظر النهاية (حوا 1/ 465) .