الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي: وإن كلهم مجموعون محضرون للحساب، أو معذَّبون. وإنما أخبر عن «كل» بجميع لأن «كل» تفيد معنى الإحاطة. والجميع: فعيل، بمعنى مفعول، ومعناه: الاجتماع، والمعنى: أن المحشر يجمعهم، فكلهم مجموعون مُحضرون للحساب.
الإشارة: يا حسرةً على العباد، ما يأتيهم من داع يدعو إلى الله، على طريق التربية الكاملة، إلا كانوا به يستهزؤون. ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون، ماتوا على الغفلة والحجاب، وكلهم محضرون للعتاب والحساب، ماتوا محجوبين، ويبعثون محجوبين لإنكارهم في الدنيا مَن يرفع عنهم الحجاب، ويفتح لهم الباب، وهم شيوخ التربية، الموجودون في كل زمان. أو: يا حسرةً على المتوجهين، ما يأتيهم من وارد على قلوبهم إلا كانوا به يستهزؤون، ولو فهموا عن الله لعملوا بما يرد على قلوبهم الصافية.
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث والإحضار، فقال:
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
قلت: «وآية لهم» : مبتدأ، وجملة «الأرضُ الميتة» : خبر.
يقول الحق جل جلاله: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أي: وعلامة لهم تدلُّ على أن الله يبعثُ الموتى، ويُحضرهم للحساب، إحياءُ الأرض اليابسة بالمطر، فاهتزت وربت بالنبات. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، هم وأنعامهم. وقدَّم الظرف ليدل على أن الحبّ هو الشيء الذي يتعلق به معظمُ العيش، ويقوم، بالارتفاق به، صلاحُ الإنسان، إذا قلَّ جاء القحط، ووقع الضرّ، وإذا فُقد حضر الهلاك، ونزل البلاء.
وَجَعَلْنا فِيها في الأرض جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ، «من» :
زائدة عند الأخفش، وعند غيره: المفعول: محذوف، أي: ما تتمتعون به من العيون.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي: من ثمر الله، أي: ليأكلوا مما خلق الله تعالى من الثمر، أو: من ثَمَرة، يخلقها الله من ذلك، على قراءة الأخوين «1» . وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أي: ومما عملته أيديهم من الغرس، والسقي، والتلقيح، وغير ذلك، مما تتوقف عليه في عالم الحكمة، إلى أن يبلغ الثمر منتهاه. يعني: أن الثمر في نفسه فعل الله، وفيه آثارٌ من عمل ابن آدم، حكمةً، وتغطيةً لأسرار الربوبية. وأصله: من ثمرنا، كما قال: وَجَعَلْنا وَفَجَّرْنا، فالتفت إلى الغيبة. ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل، ويترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه عُلم أنها في حكم النخيل. وقيل:«ما» نافية، على أن الثمرة خلق الله، ولم تعمله أيدي الناس، ولا يقدرون عليه. أَفَلا يَشْكُرُونَ الله على هذه النعم الجسيمة، وهو حثّ على الشُكر.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النخيل، والشجر، والزرع، والثمار، كيف جعلها مختلفة في الطعوم، والروائح، والشكل، والهيئة، واختلاف أوراق الأشجار، وفنون أغصانها، وأصناف نورها وأزهارها، واختلاف أشكال ثمارها، في تفرُّدها واجتماعها، مع ما بسط فيها من الطبائع الأربع من الحرورة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، وما فيها من المنافع المتنوعة. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ الأولاد ذكوراً وإناثاً، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من أصنافٍ لم يُطلعهم الله عليها، ولم يتوصَّلوا إلى معرفتها، ففي البحار عجائب لا يعلمها الناس. قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ «2» . وفائدة التنزيه: نفي تشبيه الذات بشيء من هذه الأزواج.
والله تعالى أعلم.
قال القشيري: والعَجَبُ مِمَّن يُنكر أصول الدين، ويقول: ليس في الكتاب عليه دليل، وأكثر ما في القرآن من الآيات تدل على سبيل الاستدلال، ولكن يَهْدِي لنوره مَن يشاء، ولو أنهم أنصفوا واشتغلوا بأهم شيءٍ لهم ما ضيَّعوا أصول الدين، ورضوا فيها بالتقليد، وادَّعَوْا في الفروع رتبة الإمامة والتصدير، وفي معناها قيل:
يا مَنْ تصدَّرَ في دَسْتِ «3» الإمامة من
…
مسائل الفقه إمْلاءً وتدْريسا
غَفَلْتَ عن حججِ التوحيد تُحْكِمُها
…
شيَّدتَ فرعاً وما مَهَّدتَ تأسيسا! هـ
قلت: وحاصله: مدح علم الأصول وترك علم أصل الأصل، وهو علم التوحيد الخاص، أعني الشهود والعيان.
وقد قلتُ في ذلك، تذليلا:
(1) قرأ حمزة والكسائي (من ثمر) بضم المثلثة والميم. وهى إما جمع «ثمرة» مثل: خشبة وخشب. وإما جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فيكون جمع الجمع. انظر: شرح الهداية للمهدوى (2/ 285) ، وإتحاف فضلاء البشر (2/ 25) .
(2)
من الآية 8 من سورة النحل.
(3)
الدست: صدر البيت.