الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم:«سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه» «1» . وما يُمسك من ذلك فَلَا مُرسِلَ لَهُ مِن بعده، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري: ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضباب يقهره. ويقال: ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمسك له، والذي يمنع من أعدائه- بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها- فلا مُيَسِّرَ له من دونه. هـ. وبالله التوفيق.
ثم ذكّرهم بالنعم لأن تذكر النعم سبب الفتح، فقال:
[سورة فاطر (35) : الآيات 3 الى 4]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
قلت: «غيرُ الله» : من رفعه فنعت للمحل، أي: هل خالق غير الله، ومن جره: فنعت للفظ. و «يرزقكم» : إما استئناف، أو: صفة ثانية لخالق، و «لَا إله إِلَاّ هُوَ» : مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
ثم سلَّى نبيه عن صدف قومه عن شكر المُنعم بقوله: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ، فلك فيهم أُسوة، فاصبر كما صبروا. وتنكير «رسل» للتعظيم، المقتضي لزيادة التسلية، والحث على المصابرة، أي: فقد
(1) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص/ 13، حكمة/ 156) . [.....]
كُذِّبت رسل عظام، ذوو عدد كثير، وأولو آيات عديدة، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر وعزم. وتقدير الكلام:
وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك لأن الجزاء يعقب الشرط، ولو أجري على الظاهر، لكان الجزاء مقدماً على الشرط لأن تكذيب الرسل سابق، فَوضعَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع فتأسّ، استغناءً بالسبب عن المسبب. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وهو كلامٌ مشتمل على الوعد والوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، ومجازاة المكذِّب والمكذَّب بكل ما يستحقه في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والعز لأهل الحق، وبالذل والإهانة لأهل التكذيب، وفي الآخرة معلوم، فالإطلاق أحسن من التقييد بالآخرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذكر النعمة هو أن ينظر العبد، ويتفكر في نفسه، فيجد نفسه مغروقة في النعم الظاهرة والباطنة. وقد تقدّم تعدادها في لقمان «1» . وليتفكر في حالته الماضية، فقد كان جاهلاً، فعلَّمه الله، ضالاًّ، فهداه الله، غافلاً، فأيقظه الله، عاصياً، فوفقه الله، إلى غير ذلك من الأحوال السنية. ولينظر أيضاً إلى مَن تحته مِن العباد، فيجد كثيراً مَن هو أسوأ منه حالاً ومقاماً، فيحمد الله ويشكره. قال صلى الله عليه وسلم:«انظروا إلى مَن هو تحتكم ولا تنظروا إلى مَن فوقَكم فهو أَجْدَرُ ألا تَزْدَرُوا نعمةَ الله عليكم» «2» . وحمله المحققون على العموم في الدين والدنيا. ذكره ابن عباد في الرسائل وغيره.
وقال عمرُ بنُ عبد العزيز رضي الله عنه: تذاكروا النعم فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري: مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ.
قلت: مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين إذا المتجلي واحد. ثم قال: والنعمة على قسمين:
ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ..؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
(1) راجع تفسير الآية 20 من سورة لقمان.
(2)
أخرجه مسلم فى (الزهد والرقائق 4/ 2275، ح 2963) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.