الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَرِيمٍ: حسن بهيج، أو كثير المنفعة. وكأنه استدل بذلك على عزته، التي هي كمال القدرة، وحكمته التي هي كمال العلم، فهي مقررة لقوله:(العزيز الحكيم) ثم أَمَرَ بالتفكُّر في هذه المصنوعات استدلالاً على توحيده بقوله: هذا خَلْقُ اللَّهِ أي: هذا الذي تُعاينونه من جملة مخلوقاته، فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، يعني: آلهتهم. بكَّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلق الله، فأروني ماذا خلق آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة؟ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالظلم والتورط في ضلال ليس بعده ضلال.
الإشارة: خلق سموات الأرواح- وهو عالم الملكوت- مرفوعاً غنياً عن الاحتياج إلى شيء، وألقى في أرض النفوس- وهو عالم الأشباح- من العقول الراسخة، لئلا تميل إلى جهة الانحراف، إما إلى الحقيقة المحصنة، أو الشريعة. ونشر في أرض النفوس دواب الخواطَر والوساوس، وأنبتنا فيها من علوم الحكمة والقدرة، من كل صنف بهيج. قال القشيري: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ في الظاهر: الجبال، وفي الحقيقة: الأبدال، الذين هم أوتاد، بهم يقيهم، وبهم يَصرِف عن قريبهم وقاصيهم، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء.. المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَةَ، ومن سماء الباطن في رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة. هذا خلق الله العزيز في كبريائه، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبَدْتم من دونه في أرضه وسمائه؟. هـ.
ثم ذكر قصة لقمان، الذي وقع السؤال عنه فنزلت السورة، فقال:
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قلت: (يا بُني) فيه ثلاث قراءات كسر الياء، وفتحها مُشَدَّدةً، وإسكانها «1» . وقد تتبعنا توجيهاتها في كتابنا «الدرر الناثرة فى توجيه القراءات المتواترة» .
يقول الحق جل جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ، وهو لقمان بن باعوراء بن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر، وقيل: أخو شداد بن عاد، أُعطى شداد القوة، وأُعطى لقمان الحكمة، وعاش ألف
(1) قرأ حفص: بفتح الياء.
سنة، وقيل: أكثر، وسيأتي. وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم. وكان يُفتي قبل مبعث داود، فلما بُعث قطع الفتوى، فقيل له في ذلك؟ فقال: ألا أكتفي إذا كُفيت. وقيل: كان خياطاً، وقيل: نجاراً، وقيل: راعياً. وقيل: كان قاضياً في بني إسرائيل. وقال عكرمة والشعبي: كان نبياً، والجمهور على أنه كان حكيماً فقط. وقد خُير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة، وهي الإصابة في القول والعمل. وقيل: تتلمذ لألف نبي وتتلمذ له ألف نبي. قاله النسفي.
قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود، عظيم الشفتين، مُشققَّ القدمين «2» . زاد في اللباب: وكانت زوجته من أجمل أهل زمانها. قيل: لم يزل لقمان، من زمن داود، مظهراً للحكمة والزهد، إلى أيام يونس بن متى. وكان قد عمّر عمر سبعة أنس، فكان آخر نسوره «لبذ» . رُوي أنه أخذ نسراً صغيراً فربّاه، وكان يصرفه في حوائجه، فعاش ذلك النسر ألف سنة ومات، ثم أخذ نسراً آخر، فعاش خمسمائة سنة، ثم أخذ آخر، فعاش مثل ذلك، إلى السابع، عاش خمسمائة سنة، واسمه لبذ، فقال له لقمان يوماً: يا لبذ انهض إلى كذا، فأراد النهوض فلم يستطع، وإذا بوتر لقمان قد اختلج، وكان لم يألم قط، فنادى بأهله وعشيرته، وعلم أن أجله قد قرب، وقال: إن أجلي قد حضر بموت هذا النسر، كما أعلمني ربي، فإذا مت فلا تدفنوني في الكهوف والمقابر، كما [تدفنون]«3» الجبابرة، ولكن ادفنوني في ضريح الارض، فدفنوه كما أوصاهم، فقال ابن ثعلبة:
رَأَيْتُ الْفَتَى يَنْسَى مِنَ الْمَوتِ حَتْفَهُ
…
حَذُوراً لِرَيْبِ الدَّهْرِ، والدَّهْرُ آكِلُهْ
فَلَوْ عَاشَ مَا عَاشَت بِلُقْمَانَ أَنْسُرٌ
…
لَصَرْفْ المَنَايَا، بعد ذلك، حافله
(1) عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) للحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن أبى مسلم الخولاني مرفوعا.
(2)
أخرجه الطبري (21/ 67) .
(3)
فى الأصول (تدفنوا) .
قال البيضاوي: والحكمة، في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الْمَلَكَةِ التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. ومن حكمته أنه صحب داود شهوراً، وكان يسرد الدرع، فلم يسأله عنها، فلما أتمها لبسها، فقال: نِعْمَ لبوسُ الحرب أنتِ، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، وأن داود قال له يوماً: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يَدَيْ غيري. وأنه أمر لقمان بأن يذبح شاة ويأتيه بأطيب مُضْغَتين منها، فأتى باللسان والقلب، ثم بعد أيام أمر بأن يأتي بأخبث مضغتين منها، فأتى بهما أيضاً، فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب شيء إذا طابا، وأخبث شيء إذا خبثا. والذي عند الثعلبي: أن الآمر له بإتيان المضغتين سيدهُ، لا داود عليه السلام قيل له: بِمَ نلت هذه الحكم، وقد كنت راعياً؟ فقال: بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني «1» . هـ.
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما رؤى من حكمة لقمان: أن مولاه أطال الجلوس في المخرج، فناداه لقمان: إن الجلوس على الحاجة ينخلع منه الكبد، ويورث الباسور، ويُصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هويناً، وقم هويناً.» «2» وروي أنه قَدِمَ من سفر، فقيل له: مات أبوك، فقال: الحمد لله، ملكتُ أمري، فقيل له: ماتت امرأتك، فقال: الحمد لله جُدِّدَ فراشي، فقيل له: ماتت أختك، فقال: سُترت عورتي، فقيل له: مات أخوك، فقال: انقطع ظهري. «3» هـ.
و «أَنْ» - في قوله: أَنِ اشْكُرْ: مفسرة لأنَّ إيتاء الحكمة في معنى القول، أي: وقلنا له: اشكر لله على ما أعطاك من الحكمة، وفيه تنبيه على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما، وعبادةُ الله والشكر له، حيث فسر الحكمة بالحث على الشكر. وقيل: لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حليماً في قوله وفعله ومعاشرته وصُحبته.
وقال الجنيد: الشكر: ألا يُعْصَى اللهُ بنعمه. وقال أيضاً: ألا ترى مع الله شريكاً في نعمه. وقيل: هو الإقرار بالعجز عن الشكر. والحاصل: أن شكر القلب: المعرفة، وشكر اللسان: الحمد، وشكر الأركان: الطاعة. ورؤية العجز في الكل دليل القبول. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن منفعته تعود عليه، لأنه بريد المزيد، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ غير محتاج إلى شكر أحد، حَمِيدٌ حقيق بأن يُحمد، وإن لم يحمده أحد. وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، واسمه: أنعم، أو أشكم، أو ناران، وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ، تصغير ابن، لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين مَنْ لَا نِعْمَةَ إلا منه، ومن لا نعمة منه أصلاً. وبالله التوفيق.
(1) أخرجه الإمام أحمد فى الزهد (ص 49) ، والطبري فى التفسير (21/ 67) ، وابن أبى شيبة (13/ 214) .
(2)
عزاه السيوطي فى الدر (5/ 311) لابن المنذر، عن عكرمة، بدون رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
عزاه فى الدر (5/ 317) لعبد الله فى زوائده، عن عبد الله بن دينار.