الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتقول: إني وجدت إمرأة تملكهم، وهي نفسهم الأمارة، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه، من غير وازع ولا قامع، ولها عرش عظيم، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات. أو: لها تسلط كبير على من ملكته، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى، ويخضعون للهوى من دون الله، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك، فصدهم عن طريق الوصول، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك. ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار، وعلى ما يُسرون من الإخلاص، وما يُعلنون من الأعمال، التي توجب الاختصاص. وبالله التوفيق.
ولما سمع سليمان كلام الهدهد أرسله بكتابه إلى بلقيس، كما قال تعالى:
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 34]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
يقول الحق جل جلاله: قالَ سليمانُ للهدهد: سَنَنْظُرُ أي: نتأمل فيما أخبرتَ، فنعلم أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ، وهو أبلغُ من: أَكَذَبْتَ لأنه إذا كان معروفاُ بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً، لا محالة، وإذا كان كاذباً اتّهم فيما أخبر به، فلا يُوثق به، ثم كتب: من عبد الله، سليمان بن داود، إلى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين. قال منصور: كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلهم كلاماً فيه. ثم قرأ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
…
إلخ، والأنبياء كلهم كذلك، كانت تكتب جُملاً، لا يُطيلون ولا يُكثرون. وقال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قال الله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ
…
إلخ. ثم طَيَّبه بالمسك، وختمه بخاتمه «1» ، وقال للهدهد: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ
(1) ذكره البغوي فى التفسير (6/ 158) .
أي: إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله: وَجَدْتُها وَقَوْمَها، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك.
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي: تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي: ما الذي يردّونه من الجواب، أو: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره، ودخل عليها من كوّة، فطرح الكتاب على نحرها، وهي راقدةٌ، وتوارى في الكوة. وقيل: نقرها، فانتبهت فزعة، أو: أتاها والجنود حولها، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم، ثم طرح الكتاب في حجرها، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم قالَتْ لأشراف قومها وهي خائفة: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه إذ هو حق، أو: لأنه من ملك كريم، أو: لكونه مختوما. قال- عليه الصلاة والسلام: «كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ» «1» أو: لكونه مصدراً بالتسمية، أو: لغرابة شأنه، ووصوله إليها على وجه خَرْق العادة.
ومضمونه والمكتوب فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وهذا تبيين لما أُلقي إليها، كأنها لما قالت: أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل لها: ممن هو وما هو؟ فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، «إن» : مفسرة، أي: لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا، كما يفعل جبابرة الملوك، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: مؤمنين، أو: منقادين، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل: إقامة الحجة على رسالته لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي:
أجيبوني في أمري، الذي حزبني وذكرتُه لكم، وعبّرت عن الجواب بالفتوى، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر، ورفعاً لمحلهم، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم قالت:
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً من الأمور المتعلقة بالمملكة حَتَّى تَشْهَدُونِ بكسر النون، ولا يصح الفتح لأنه يُحذف للناصب. وأصله: تشهدونني، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية، أي: تحضروني، وتشهدوا أنه على صواب، أي: لا أقطع أمراً إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد على عشرة آلاف.
قالُوا في جوابها: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: نجدة وشجاعة، فأرادوا بالقوة: قوة الأجساد والآلات، وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: هو موكل إليك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ،
(1) رواه الطبراني فى الأوسط (ح 3872) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح 39) عن ابن عباس رضي الله عنه. وفى سنده السدى الصغير، متروك. انظر مجمع الزوائد (8/ 99) .
فنحن مطيعون إليك، فمُرينا بأمرك، نمتثل أمرك، ولا نخالفك. كأنهم أشاروا عليها بالقتال، أو أرادوا: نحن من أبناء الحرب، لا من أبناء الرأى والمشورة، وأنت ذات الرأي والتدبير، فانظري ماذا تأمرين نتبع رأيك.
فلما أحست منهم الميلَ إلى المحاربة مالتْ إلى المصالحة، فزيفت رأيهم، حيث قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً على منهاج المقاتلة والحرب، أو عنوة وقهراً أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها، وإتلاف ما فيها من الأموال، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء، وغير ذلك من فنون الإهانة ليستقيم لهم مُلْكُهم وحدهم. ثم قالت: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ أي: وهذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير، لأنها كانت في بيت المملكة قديماً، أباً عن أب، فجربت الأمور، أو: يكون من قول الله تعالى، تصديقاً لقولها، أي: قال الله تعالى: وكذلك شأن الملوك إذا غلبوا وقهروا أفسدوا. وأنشدوا في هذا المعنى:
إِنَّ الْمُلُوكَ بَلَاءٌ حَيثُمَا حَلُّوا
…
فَلَا يَكُن بكَ فِي أَكْنَافِهِمْ ظلُّ
مَاذَا يُؤمَّل مِن قَوْمٍ إِذَا غَضِبُوا
…
جَارُوا عَلَيْكَ وَإِن أَرْضَيْتهمُ مَلوا
وَإِن صدقتهم خالوك تخدعهم
…
واستثقلُوكَ كَمَا يُسْتَثْقَلُ الكُلّ
فَاسْتَغْنِ بالله عن أبْوابِهِمْ أبداً
…
إِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى أَبْوَابِهِم ذُلُّ
ففي صحبة الملوك خطر كبير، وتعب عظيم، فمن قوي نوره، حتى يغلب على ظلمتهم، بحيث يتصرف فيهم، ولا يتصرفون فيه، فلا بأس بمعرفتهم، إن كان فيه نفع للناس بالشفاعة والنصيحة، وقد أقيم في هذا المقام الشيخ أبو الحسن الشاذلي، وشيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي- رضى الله عنهما- وكان تلميذاهما الشيخ أبو العباس المرسي، وشيخنا سيدي محمد البوزيدى الحسنى- رضى الله عنهما- يفران من صحبتهم، أشد الفرار، وهو أسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال صاحب الخصوصية لنفسه: سننظر أَصدقتِ في الخصوصية أم أنتِ من الكاذبين، اذهب بما معك من العلم، وذكّر به عباد الله، وألقه إليهم، ثم تولّ عنهم، وانظر ماذا يرجعون، فإن تأثروا بوعظك، وانتقش فيهم قولك، فأنتِ صادقة في ثبوت الخصوصية لديك لأن أهل العلم بالله إذا تكلموا وقع كلامهم في قلوب العباد، فحييت به قلوبهم وأرواحهم. ومن لا خصوصية له صدت كلامه الآذان. قالت حين أراد التذكير: يا أيها الملاُ إني أُلقي إليّ في قلبي كتابٌ كريمٌ، وعلمٌ عظيم، فلا تعلو عليّ وأتوني مسلمين، منقادين لما آمركم به، وقالت- لَمَّا تطهرت من الأكدار، وتحررت من الأغيار، وأحدقت بها جنود الأنوار: يا أيها الملأ- تعني جنود الأنوار- أفتوني في